حكومة
الأخصائيين
عُرِفَ الحمار منذ أن وُجِدَ حماراً، بسـعةِ صبره وقدرته على تحمل المشقات دون
اعتراض أو تذمَّر ، ليس لحكمةٍ أو ذكاءٍ، إنما لأنه وبعبارةٍ وجيزةٍ جداً: حمار!
هذا الاسم لا يهينه ولا يجرح إحساسه فقد توارثه عن أبيه وأجداده وهو فخورٌ به،
ولكنَّه يتألـَّم حين يُطْلـَقُ اسمُه على أحد بني الناس، خصوصاً إذا لم يكن ذلك
الأحدُ جديراً بحمل هذا الاسم.
حمارنا موضوع حديثنا اليوم، مستاءٌ وغاضبٌ ووراء غضبه سببٌ وجيه.
"نحنُ معشر الحمير.."، يقول حمارنا محدثاً نفسه، "من الأقليات الكادحة التي اختارها
الإنسان لخدمته فأمِـنَها ووجد فيها خيرَ صاحبٍ ومعينٍ، كالجمالِ والبقرِ والكلابِ
والخيل."
"كافحنا وتعبنا. حملنا الحطب والماء والقمح والأحجار. جررنا العربات الثقيلة. فلحنا
الأرض. امتطى الناس ظهورنا عبر العصور للتنقُّل بين المدن والأقطار. عاشرْنا
الملوكَ وعرفْنا الأنبياءَ ورافقْنا الفلاسفةَ وكنا دائماً أوفياءَ مخلصين. وكان
مجرد إطلاق اسمنا على أحد الطلاب يكفي لأن يكون دافعاً له على الدراسة والنجاح. لم
نؤذِ إنساناً أو نأكل لحمه في حياتنا حيث أننا نباتيّون، وجلّ ما نعبِّر به عن
غضبِنا، إن غَضِبْنا، هو الرفس أو الحِران أو النهيق."
"قدَّمنا لبني البشر أعظم الخدمات. خففنا عنهمُ المتاعبَ والمصاعب. كنا لهم مخلصين
أمناء. وفرحنا حين تطوَّر الإنسان واخترع الدراجات ثم السيارات ثم الطائرات إذ خفَّ
الحمل إلى حدٍّ ما عن ظهورنا، واعتقدنا بعد هذه العشرة الطويلة والخدمة النبيلة أن
وقت المكافأة قد جاء، ولكن لخيبةِ أملنا وجدْنا بني البشر لا يختارون من بين كل
الحيوانات إلاَّ الأسد، فيسمونه ملك الغاب ويسلمونه مقاليد الإدارة والزعامة وهو لم
يقدِّم في حياته لهم خدمةً من الخدمات، لا بل أنه طالما غزا مدنهم وقراهم وأثار في
قلوبهم الرعب. اعتدى عليهم وعلينا وأكل من لحومهم ولحومنا، ولم يأمن له في يومٍ من
الأيام إنسانٌ أو حيوان. أفليس هذا إجحافاً بحقنا؟"
"لقد توصَّل الأسد بدهائه وأنيابه الملطخة بالدماء إلى السيطرة على مقاليد أمور
الغاب، وأقنعَ أصدقائي الناس الطيبين بأنَّ خبرته في التسلّط والسيطرة، تؤهِّله
لهذا المنصب، ثم لكي يضمن العرش الجديد لنفسه ولأولاده من بعده، أخذ يستميل
القبـائل والعشائر الحيوانية، فعيَّن ممثلين عنها لمساعدته في إدارة شؤون الغاب،
واختار هذا الخبيث من الحيوانات، تلك التي لا حول لها ولا قوَّة حتى لا يستطيع أحد
منافسـته أو النيل منه. ولإرضائهم، ترك لهم مطلق الحرية في أن يفعلوا ما يشاؤون دون
حسابٍ أو رقيب."
"أرضى الثعلبَ بإعطائه وزارة العدل، وأعطى الجرذَ وزارة المالية وإدارة البنك
المركزي ليقضم ما شاء من الأوراق النقدية، وسلَّم أمور وزارة الزراعة للجرادة،
ووزارة الإصلاح الزراعي للمعزاة، وعيَّن الوطواط للإنارة والكهرباء، والسلحفاة
للمواصلات، والخنزير للصحة، والفأر للدفاع، والبوم للخارجية، والذئب للداخلية،
والببغاء للإعلام.. أما نحن وأبناء عمومتنا الخيل وأخوالنا الجمال، فلم يكن لنا في
هذا النظام الجديد حصة!"
"ألسنا أجدر من السلحفاة بوزارة المواصلات أو من البوم بوزارة الخارجية ولنا في
التنقّل والأسفار والبلاد الأجنبية خبرة لا ينافسنا بها حيوان آخر؟"
************************
ويعتمر الغضب في قلب حمارنا ذات يوم، فيحرِن عن السير في أحد شوارع المدينة المكتظة
بالباعة والحميرِ المحملة بأصناف البضائع، ويقرر أن يعبّر عما في نفسه من غضب
علانية.
يقف حمارنا ويبدأ بالنهيق.. ينهق وينهق غير مكترث بصاحبه الذي أخذ يشده من رقبته
يمنة وشمالاً. ويرد على نهيقه حمارٌ آخر ثم حمارٌ آخر ثم آخر، وأخيراً، يضج الشارع
بالنهيق، ولا تمضي إلا ساعات معدودة حتى تعمّ ثورة الحمير السلمية أنحاء البلاد
كلها فتنهق الأمةُ بأكملها نهقة حمارٍ واحد!
************************
ثورة الحمير السلمية لم تذهب سُـدىً ونهيقهم لقي أخيراً آذاناً صاغية، وكان الفضل
في ذلك لحمارنا قائد الحركة المباركة. لقد دفعت هذه المسيرة السلمية الأسد إلى
إعادة النظر في توزيع الحقائب فعين حماراً لوزارة الاقتصاد والتجارة، وحماراً آخر
للتربية والتعليم والثقافة العالية.
************************
وسُـرَّ حمارنا سروراً عظيماً فنهق بأعلى صوته: "عاش الأسـد.. عاش الأسـد ."
وتردد صدى النهيق في أرجاء البلاد.
**************************************************