سارة هي فتاة بغدادية كريمة المحتد والأصل، وهي ابنة اوهانيس (هوفهانيس) ماركوس اسكندريان (1834-1899) أحد وجوه الأرمن ببغداد، وقد أوتيت من جمال الوجه ما لم تؤته فتاة، ووقعت بسبب هذا الجمال في أحداث كأحداث بعض أفلام هوليوود، بسبب وقوع الوالي العثماني ناظم باشا في حبها ورفضها لهذا الحب وتصديها له.
ولدت سارة في بغداد عام 1889، وفقدت والدتها صوفي (1856-1895) وأختها الصغيرة زابيل، ثم والدها قبل أن تبلغ سن الرشد وتبقى تحت رعاية عمتها صوفي ووصاية عمها سيروب اسكندريان. وكانت سارة قبل مولدها قد فقدت أخاً لها، أسمه كيروب، بعد خمسة أشهر من مولده (ولد في 22 آب-أغسطس 1886 وتوفي في 28 كانون الثاني-يناير 1887) . وحرص العم على التمسك بالوصية على سارة لانتفاعه منها. وقد خلف لها والدها ثروة طائلة جداً، تتضمن أموالاً وبساتين وأراضي زراعية في بغداد والصويرة والحلة ومنطقة الشوملي، فضلاً عن أراضي واسعة ضمن حدود أمانة بغداد قسمت وبيعت لتغدو في ما بعد منطقة سكنية تعرف بحي الرياض (كمب سارة) . وكان المنزل الفخم لأهل سارة يقع في شارع الرشيد ببغداد على ضفاف نهر دجلة، وأصبح في ما بعد احد فنادق بغداد المعروفة وأسمه (ريفر فرونت هوتيل) ، وقيل أن أملاكها كانت من الكثرة وكبر المساحة بحيث كان القطار سيستغرق في مسيره مدة نصف ساعة للخروج من حدودها! !
وكان والدها المحسن قد أوقف أحد بيوته الكبيرة الى الطائفة الأرمنية بعد وفاة ابنته زابيل في عام 1897، وهي في سن السادسة من العمر، لتكون مدرسة سميت تخليداً لذكراها باسم (المدرسة الزابيلية) ، وهي أول مدرسة للبنات في بغداد تأسست عام 1901، والتي دمجت عام 1917 مع أول مدرسة أرمنية أنشئت في بغداد عام 1852 باسم (تاركمانجاتس) وتعني (المترجمون) لتتكون منها أول مدرسة مختلطة في العراق، وهي مدرسة الأرمن المختلطة الأهلية.
بدأت قصة سارة مع الوالي العثماني ناظم باشا، تلك القصة التي وصلت أخبارها الى اسطنبول وربما الى أوروبا، ذات ليلة من شهر آب-أغسطس 1910 عندما أقام ناظم باشا، متظاهراً بالتجديد ومدعياً تأثره بالمجتمع الفرنسي الذي عرفه أثناء إقامته في باريس فترة من الزمن، حفلة راقصة على ظهر باخرة نهرية من أجل إنشاء مستشفى الغرباء ببغداد. وكانت الحفلة مختلطة حضرها القناصل وزوجاتهم وأفراد الجاليات الأجنبية وبعض العائلات المسيحية، وقد زينت الباخرة بالأنوار والأعلام وصدحت فيها الموسيقى. وكانت بغداد تشهد لأول مرة حفلة من هذا النوع، وقد حضرتها سارة مع أفراد عائلتها وهي تلبس الإزار والخمار (البوشي) على الطريقة التي كانت مألوفة يومذاك، ولم يكد الوالي يشاهدها حتى شغف بها حباً على الرغم من الفرق الكبير بين عمريهما، إذ كانت سارة في السابعة عشرة من عمرها بينما هو كان في الخمسين [وردت تفاصيل القصة في الفصل الأول من كتاب خيري العمري (حكايات سياسية) المنشور في القاهرة في عام 1969].
وظل الوالي يتحين الفرصة للوصول إليها والتعرف عليها، ولما عرف أنها ابنة أخ سيروب اسكندريان الذي كان قد عينه مديراً للإدارة النهرية شعر وقتذاك أن الطريق ممهد له، فلم يتوان وتقدم منها لتكون بعد لحظات موضع رعايته واهتمامه.
وكانت سارة قد ضاقت ذرعاً بوصاية عمها على ثروتها الكبيرة، كونه يتصرف بأموالها لنفسه، فاعتبرتها فرصة ذهبية لتستعين بالوالي على فسخ هذه الوصاية واستبدالها بوصاية مطران الكنيسة الأرمنية. لذا طلبت من ناظم باشا موعداً لزيارته، فكان الجواب سريعاً. وفي الموعد المحدد ارتدت سارة العباءة وأسدلت على وجهها الخمار على هيئة ما كانت نساء بغداد يفعلنه وقتذاك عند الخروج الى الشارع، واصطحبت معها عمتها صوفي التي كانت تقف الى جانبها في رفض وصاية العم سيروب، ورحلت تريد مقابلة الوالي في داره.
ويبدو أن هيبة الوالي العجوز ونظراته قد أخرست سارة عن الكلام في هذا اللقاء، فتولت العمة صوفي شرح الموضوع الذي أنصت إليه الوالي بشكل جاد. وبعد أيام من هذا اللقاء، أرسل الوالي في طلب العم سيروب وولده تانييل (دانيال) وطلب منهما أن يقدما كشفاً بالحساب لإرث سارة. فاستبشرت سارة خيراً، إلا أن الأمور سارت بمنحى آخر، إذ بادر ابن عمها تانييل الى زيارتها في إحدى الأمسيات وذكر لها، وهو مضطرب، أن ناظم باشا يريدها زوجة لسكرتيره الخاص سورين.
وتصورت سارة أن تانييل غير جاد وأنه يمزح معها، إلا أنه قطع عليها ظنونها هذه عندما استطرد يزين لها هذا الزواج، فطردته وأسمعته من جارح الكلام ما جعلها تظن أنه لن يعاود. بيد أنه عاد إليها بعد يومين ليقدم لها عرضاً آخر (أكثر إغراء) عندما قال لها أن الوالي يريدها زوجة له! ورفضت سارة (عرض) تانييل هذا لها وطردته ثانية، فشعر الوالي أن صبية بغدادية لا تملك ما يملكه هو من سطوة واقتدار قد تمردت عليه من دون رهبة أو خوف، فأخذ بتضييق الخناق عليها ونصب الشراك لها، فإذا بها تفلت من واحد حتى يكون الثاني في انتظارها وهي صامدة ببطولة وشجاعة، وتبين للباشا أنها فتاة من طراز خاص ذات إرادة وشخصية قوية.
وأوعز الوالي الى (الجندرمة) بأن يقتحموا بيتها، فتسلقت الجدار الذي يفصل بينها وبين جارها القنصل الألماني في بغداد (هسا) الذي وجد أن بقاءها في داره قد يسبب أزمة دبلوماسية، لأنه لا يشك في أن الوالي الخرف قد لا يتورع عن اقتحام داره ذي الحصانة الدبلوماسية، فنقلها على الفور الى دار السيد داود النقيب (ابن أخ السيد طالب النقيب نقيب الأشراف في بغداد) في محلة باب الشيخ ببغداد، فآواها النقيب ووفر لها حماية كاملة منطلقاً من مبادئه الإسلامية في نصرة المظلوم والوقوف الى جانب الحق، وشهامته وتربيته العربية في حماية (الدخيل) أو اللاجئ. ولم يتجرأ الوالي على اقتحام دار السيد النقيب، نظراً للاحترام الكبير الذي كان يحظى به من قبل جميع الناس، إلا أن الوالي وزع جلاوزته (الجندرمة) حول الدار لإلقاء القبض على سارة عند مغادرتها للدار.
سارة خاتون...السيدة الارمنية العراقية الاصيلة
وبقيت سارة في دار السيد النقيب خمسة أيام أمعن الوالي خلالها في التضييق عليها وإيذائها، فاعتقل خادمتي سارة لولو وفريدة بتهم ملفقة باطلة، وأمر أصحاب الزوارق الصغيرة التي تعمل بالمجاذف (البلامة) وأصحاب الحيوانات التي تستخدم في التنقل بالامتناع عن مساعدتها في التنقل بأي من وسائطهم، كما أبعد خطيبها الى كركوك لأداء الخدمة العسكرية هناك، على الرغم من دفعه للبدل النقدي الذي كان يمنحه الحق في أداء الخدمة العسكرية في محل إقامته.
وبلا شك، تسربت القصة الى أوساط العامة في بغداد، ونشأت الأغاني و (البستات) التي تتضمن إشارات غير مباشرة الى سلوك الوالي. ووقف أهل بغداد الى جانب سارة، ولا يستبعد أن يكون البغداديون قد ربطوا بين تصرف الوالي الشخصي هذا وبين موقعه كحاكم لدولة أجنبية تسيطر على العراق وتتصرف بمقدراته، ولهذا هبوا جميعاً لنصرة سارة كمواطنة عراقية لحقها حيف وظلم من حاكم غريب عن الوطن. ونصر أهل بغداد سارة على الوالي مرتين: مرة عندما خرجت من دار السيد النقيب وهي محجبة تستقل عربة (يجرها حصانان) ، إذ لمحها الرقباء من (الجندرمة) الذين انتشروا حول الدار. وعندما تصدوا لها قصد إلقاء القبض عليها افتعل شباب محلة (باب الشيخ) أمراً صرفوا إليه (الجندرمة) عن عربة سارة، وبذلك فوتوا عليهم الفرصة وكان أن أفلتت من أيديهم. ونصرها أهل بغداد ثانية عندما حاول ابن عمها تانييل اختطافها وهي في حديقة بيتها المطل على شاطئ نهر دجلة بزورق أرساه عند الحديقة، فصرخت واستنجدت بجيرانها من الفلاحين المجاورين لبيتها، فهبوا لنجدتها بالعصي و (المساحي) و (المگاوير) ، فهرب تانييل بجلده لا يلوي على شيء.
وكانت سارة قد أودعت حليها لدى ابن عمها فطالبته بأن يعيده إليها بعد الذي جرى لها منه ما جرى، فأعاده إليها. وعندما تفحصته وجدت أن واحداً من خواتمها الذي لا يقدر بثمن غير موجود. ولما استطلعت منه عن أمره أخبرها أنه موجود لدى الوالي وأنه يحتفظ به.
وبرغم ما يمتلكه هذا الوالي من المقدرة على التصرف بالأمور، وهو (الحاكم بأمره) ، إلا أن سارة تماسكت بشكل بطولي واستطاعت أن تقابل إجراءاته ومضايقاته بصبر وصلابة ثابتة.
واستقر رأيها على استرجاع الخاتم من هذا العاشق الخرف، فجمعت عائلتها وطلبت منهم أن يصحبوها الى بيت الوالي لمطالبته بالخاتم واسترجاعه منه، وكان لها ما أرادت. فقد ساد هذا اللقاء جو من الرهبة والخوف وأخرج الباشا الخاتم من جيبه وقال وهو ينظر الى سارة نظرة امتزجت فيها معاني التهديد بالغضب: "هل أعيد الخاتم إليك يا سارة أو احتفظ به عندي؟ " فالتفتت إليه سارة وأجابته بشجاعة: "إذا كنت يا باشا تريد الخاتم مقابل ما أسديته لي من جميل فهو لك، أما إذا أردته لشيء آخر فيؤسفني أن أرفض". فانقلبت سحنة الباشا فجأة واحمرت عيناه غضباً واستولى على الحاضرين من الأقارب خوف شديد. وفجأة قال الباشا:"انصرفوا..غداً سأبعث الخاتم إليكم"، وانصرف الحضور.
وهنا دخلت السياسة بطرفها في هذا الحادث، إذ كان في بغداد آنذاك أعضاء لكل من حزب الاتحاد والترقي وحزب الحرية والائتلاف والذي كان ناظم باشا أحد أبرز أعضائه. واستغل حزب الاتحاد والترقي ذلك التذمر الشديد وسخط الشارع البغدادي على الوالي وتصرفاته، واستنفروا شهامة أهل بغداد وحميتهم ونظموا الاحتجاجات للتنديد بناظم باشا وسياساته وتنظيم حملة ضده وضد حزب الحرية والائتلاف.
أثناء ذلك، وصل الى بغداد إسماعيل حقي بابان، من أسرة آل بابان العراقية المعروفة، في جولة انتخابية وصحفية باعتباره مراسل صحيفة (طنين) المعروفة بولائها لحزب الاتحاد والترقي. وتم اطلاع بابان على جلية الأمر لكي ينبري لفضح أعمال الوالي على صفحات صحيفته أو في مجلس المبعوثان إن هو فاز بعضويته، ونظم لقاء لسارة به في محلة (الصابونجية) ببغداد. والتقت سارة في دار سليم باشا بالسيد إسماعيل حقي بابان وأطلعته على كل ما جرى، وقد وجدت فيه من الحماس والاندفاع ما زادها شجاعة وصلابة.
وعاد بابان الى اسطنبول ليبسط موضوع سارة هناك، وقام نواب العراق (نائبا الموصل ونواب بغداد والديوانية وكربلاء وكركوك) في مجلس المبعوثان العثماني بتقديم تقرير عما جرى في هذا الموضوع في 12 كانون الثاني-يناير و 6 شباط-فبراير 1911. وانتقد طلعت باشا وزير الداخلية ناظم باشا على سلوكه، ملوحاً بالتحقيق وعزل ناظم باشا.
وسارع أعضاء حزب الحرية والائتلاف الى مؤازرة ناظم باشا والدفاع عنه في صحيفة (صدى بابل) لصاحبها داود صليوه، وصحيفة (الرياض) لصاحبها سليمان الدخيل. واتخذت الصحف البغدادية الأخرى موقف النقد والمعارضة لناظم باشا.
على أن حماقة ناظم باشا دفعته أكثر الى الانحدار في سلوكه بعد أن أحس بنذر الخطر تحدق به، فراح يحاول الحصول على تقرير طبي يؤيد إصابة سارة بمرض عقلي يتطلب وضعها تحت الحراسة. وبلغ الأمر مسامع سارة وأدركت ما يعنيه هذا الإجراء إن نجح ناظم باشا في تحقيقه، فأخذت تعد العدة للخروج من بغداد والهروب الى أية جهة تكون فيها بمنجاة من تصرفه. لذا سارعت الى الهرب من بغداد بمساعدة راهبات دير الراهبات الفرنسيات متخفية بزي راهبة وبصحبة الراهبة هنرييت والراهب الاسباني بيير. واستطاع الثلاثة أن يغادروا محلة (رأس القرية) ، حيث يقع الدير، الى منطقة (المصبغة) المجاورة للمدرسة المستنصرية، واستقلوا باخرة من بواخر شركة لنج المعروفة التي كانت ترسو عند شاطئ المنطقة، للذهاب الى البصرة.
كانت سارة ما أن تتخلص من مأزق حتى يعترضها مأزق آخر، لأن الباشا كان مصراً على أن يظفر بها. ولهذا ما أن تفشل خطة حتى يبادر الى أخرى، وكانت سارة تفلت من أي حصار يضربه عليها الباشا مهما بلغت دقته. وكانت العيون التي بثها الوالي في كل مكان قد نجحت في رصد تحركات سارة بشكل دقيق. فقد عرف ناظم باشا أن سارة انتقلت الى باخرة شركة لنج، ولهذا أرسل عدداً من (الجندرمة) لإلقاء القبض عليها.
وحاول جلاوزة الوالي اقتحام الباخرة، إلا أن قائدها منعهم من ذلك، باعتبارها تحمل العلم البريطاني وتابعة لقنصلية أجنبية. وكانت بواخر هذه القنصليات تتمتع بحصانة دبلوماسية كالقنصليات التابعة لها. وهكذا، فشل الوالي مرة أخرى في القبض على سارة. وانطلقت الباخرة الى البصرة، وصدرت الأوامر الى قائدها بأن يقودها بأقصى سرعتها ودون توقف في أية مدينة تمر بها.
وأستمر الوالي الطاغية بمحاولاته للقبض عليها وفكر في وسيلة أخرى. فقد حاول إعادتها من البصرة مدعياً أن راهبات دير الراهبات الفرنسيات أجبرن سارة على التخلي عن مذهبها الأرثوذكسي واعتناق المذهب الكاثوليكي الذي كانت عليه هؤلاء الراهبات.
سارة خاتون...السيدة الارمنية العراقية الاصيلة
وتعاونت القنصلية البريطانية في البصرة مع القنصل الروسي هناك لتهريب سارة على إحدى البواخر الراسية في شط العرب والتي كانت تستعد للتوجه الى مدينة بومبي. ورست الباخرة في ميناء بوشهر الإيراني في الخليج العربي، وبقيت هناك مدة من الزمن تحت رعاية السير برسي كوكس المقيم البريطاني في بوشهر، والذي ساعدها في إرسال برقيات الاحتجاج الى اسطنبول، والمحافظة على أملاكها ببغداد من استيلاء ناظم باشا عليها. وقام السير برسي كوكس بإصدار تقرير طبي يؤيد كونها سالمة من أي مرض عقلي، وذلك رداً على طلب القنصلية العثمانية بذلك، تركت بعدها سارة بوشهر الى بومباي حيث استقرت لبعض الوقت.
في 17 آذار-مارس 1911 ورد الأمر من اسطنبول بعزل ناظم باشا من ولاية بغداد. وبعد ثلاثة أيام توجه ناظم باشا بالباخرة الى البصرة، ومن هناك ذهب الى اسطنبول عن طريق بومبي. ولم ينس أثناء مروره بمدينة بومبي أن يبحث عن سارة. وشعرت إدارة الهند البريطانية بالأمر، فأوعزت الى سارة خاتون أن تتوارى عن الأنظار لفترة ريثما ييأس الباشا المتصابي فيغادر بومبي. وعندما عادت سارة الى شقتها بعد تأكدها من سفره، سلمتها صاحبة البيت رسالة تركها لها ناظم باشا يعبر فيها عن (حبه) ، وأرفق معها صورة له! !
وعلى إثر عزل ناظم باشا، نظم الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي قصيدة بعنوان (طاغية بغداد) ، وفي ما يأتي أبيات منها:
رام هتـكاً لمـا تصـون فتـاة كسبت في أمر العفاف اشتهاراً
بنت قوم لم يدنس العرض منهم بقبيح هم من سـراة النصارى
أيهـا المصـلح الـكبير أهـذا ما يسـميه بعضـهم اعمـارا
يا مهين العراق هل كنت تدري أن أهل العراق ليسـوا غيارى
سر بعيـداً الى سـلانيك عنـا أن فيهــا كواعبـاً أبكــاراً
وتولى ناظم باشا وزارة الحربية عندما تسلم الائتلافيون الحكم في 22 تموز-يوليو 1912، ثم قتل بعد أشهر محدودة من قبل متظاهرين اقتحموا الباب العالي أثناء انعقاد مجلس الوزراء في خضم هزائم الجيش العثماني إبان حروب البلقان الأولى.
وغادرت سارة بومبي الى باريس حيث تزوجت عام 1913 من تانييل اوهانيس تاتيوسيان (1875-1922) ، وهو عراقي أرمني. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أوزارها، عادت الى بغداد مع زوجها، وأخذت ترعى ثروتها بنفسها. وقد سمت ولدها برسي (ولد ببغداد في عام 1922 وتوفي فيها عام 1987) تيمناً بالجميل الذي أبداه لها السير برسي كوكس، وسمت ابنتها صوفي (ولدت ببغداد في عام 1917 وتوفيت فيها عام 2002) على اسم أمها وعمتها. كما ولدت لها ابنة أخرى أسمتها ادما (ولدت ببغداد في عام 1919 وتزوجت في انكلترا وتوفيت فيها -2006) .
ويروي الذين عاصروها الكثير من الحكايات عن كرمها الذي تجاوز حد المعقول الى التبذير والإسراف، فجاء هذا الإسراف على آخر فلس من ثروتها، فضلاً عن عملية الإحتيال التي تعرضت لها. وقد أحيطت بالخادمات والطباخات وبسائقها، وكانت الدعوات التي تنظمها في بيتها فريدة من نوعها في بغداد.
وتميزت سارة خاتون أيضا بمواقفها المشرفة من بني جلدتها من الأرمن الذين عانوا من مجازر الإبادة الأرمنية على يد الحكام العثمانيين عام 1915. ففي هذا العام، تم تهجير قافلة نضم نخبة من المثقفين والبارزين من الأرمن في بغداد، بضمنهم الأستاذ والمربي الفاضل ومدير المدرسة الأرمنية ببغداد مهران سفاجيان الذي هجِّر الى رأس العين حيث توفي. كما استشهد هاكوب نرسيسيان، وهو لغوي من القدس وكان مترجماً في القنصلية البريطانية في بغداد، وكارنيك كيومجيان وآخرين. وأعقبت هذه القافلة قافلة ثانية من المهجرين. ولدى علم سارة بأنه يتم الإعداد لتهجير قافلة ثالثة من الأرمن، لجأت الى بعض الأعيان العرب وسألتهم الوساطة لدى الوالي للعدول عن قرار التهجير. وبجهود سارة، تم إنقاذ أفراد هذه القافلة وتوقفت عملية تهجير الأرمن.
وفي عام 1917، أسست سارة خاتون مع عدد من النساء الأرمنيات في بغداد الهيئة النسوية الأرمنية لإغاثة المهجرين الأرمن بفعل مجازر الإبادة الأرمنية في الدولة العثمانية عام 1915، والتي راح ضحيتها مليون ونصف المليون من الأرمن وترك عشرات الألوف من المهجرين والمشردين. وفي الوقت ذاته، قامت سارة خاتون وزوجها تانييل (قبل أن يتوفى في باريس في عام 1922) بتوزيع الطعام والملبس على 20 ألفاً من المهجرين الأرمن في العراق.
وبزيادة عدد المهجرين الأرمن، أصبح حي (كمب الكيلاني) لا يستوعبهم، مما استدعى تدخل سارة مرة أخرى لإبداء المساعدة، إذ قامت في العام 1937 بتوزيع أراضيها لقاء مبالغ مالية زهيدة. ولكي تمنع أي استغلال، وتضمن حصول أكبر فئة من الناس على هذه الأراضي، لم تبع أية قطعة أرض تزيد مساحتها على 150 متراً. وسمي هذا الحي الأرمني حي (سارة الزنگينة) أو (كمب سارة) .
ومنذ عام 1938، كانت سارة خاتون توفر الملابس والقرطاسية لجميع الطلبة المتعففين في مدرسة الأرمن. وعلى الرغم من ظهور البوادر لأزمتها المالية، فأنها استمرت بعملها الخيري هذا مدة عشر سنوات بلا انقطاع.
وبعد تأزم أوضاعها المادية أتتها الضربة الكبرى، إذ فقدت في يوم واحد، وإثر عملية احتيال تعرضت لها، كل ما تملك حتى منزلها. وقام أناس بمساعدتها بشكل ظاهر أو مستتر. وقد استمرت خادمتها المخلصة وسائقها الشخصي بخدمتها بلا مقابل حتى وفاتها في 5 كانون الأول-ديسمبر 1960.
ووصف ليباريد آزاديان مؤلف كتاب (ذكريات دجلة) واقعة جمعته بسارة خاتون في بغداد بعد أن فقدت ثروتها، فقال:"في يوم صيفي لاهب وفي الساعة الثانية بعد الظهر، وعندما كنت أقود سيارتي لمحت سارة خاتون وهي تنتظر في محطة لحافلات الباص، من دون أن تضع قبعة يحمي رأسها من أشعة الشمس. وكان منظراً لا يصدق. وفكرت في أنها يمكن أن تصاب بضربة شمس، وقد تجاوزتها، بيد أن ضميري أخذ يؤنبني. كيف كان في إمكاني تجاهل سارة خاتون وتركها في هذا الوضع، وأنا الذي كنت أردد أسمها المشرف دائماً في طفولتي، وقررت العودة لمحطة الناص وقلت لها: سيدة سارة، تفضلوا، سأنقلكم بسيارتي الى حيث ترغبون. فكان جوابها: شكراً ولدي، ستضايق نفسك. فقلت لها: لا توجد أية مضايقة، وأرجو كثيراً أن لا ترفضوا عرضي هذا. ونزلت من السيارة وقدتها إليها، وكان العرق يتصبب منها بغزارة! ! وفي الطريق قلت لها: سيدة سارة، إنكم لا تعرفونني. أنا وأمثالي جئنا مهاجرين الى بغداد وحظينا بدعمكم المعنوي والمادي، وأنني أشعر دائماً بالعرفان بالجميل تجاه شخصكم، وأنكم بإعمالكم الخيرية صرتم فخراً لأرمن بغداد. ولم يصدر منها أي تعليق على كلامي هذا. وعندما وصلنا، فتحت لها باب السيارة. وبعد أن نزلت من السيارة، رفعت رأسها وقالت لي: شكراً، أيها السيد".
لقد كانت حياة سارة خاتون مليئة بالمآسي التي واجهتها بكل صلابة وشجاعة، فقد توفي أخ لها في عمر خمسة شهور قبل ولادتها. كما توفيت، وهي في سن صغيرة، أمها وأختها الصغيرة وأبوها، وتلاعب عمها بثروتها، وتعرضت للصعوبات الكثيرة إثر ملاحقة الوالي ناظم باشا لها بسبب حبه لها الذي رفضته. كما توفي زوجها ولم يمض عشر سنوات على زواجهما، وأخيراً فقدت ثروتها الطائلة. ورحلت سارة عن هذا العالم والحزن يعتصر قلبها، وهي لم تفهم لماذا يكون القدر قاسياً معها الى هذا الحد، وهي التي سعت دائماً الى فعل الخير للآخرين.
وتحتل سارة خاتون المرتبة الأولى في قائمة المحسنين في تاريخ الأرمن في بغداد، لأنها أنقذت الأرمن من القتل العثماني وساعدت المهجرين، وأدخلت البهجة والسرور في نفس الأطفال المتعففين. وكانت سارة محبوبة ومحترمة جداً من قبل الجميع، وكان الأعيان العرب ينظرون إليها على أنها أميرة ويجلونها كثيراً. كما حظيت بالاحترام الخاص من قبل البلاط العراقي.
**************************************************