لخليل بن أحمد الفراهيدي اسمه ونسبه
هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفَرَاهِيديُّ، ويقال: الفُرْهودِي، الأزدي. والفراهيدي نسبة إلى فراهيد، وهي بطن من الأزد. والفرهود: ولد الأسد بلغة أزد شَنُوءة، وقيل: إن الفراهيد صغار الغنم
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: "أول من سُمِّي في الإسلام أحمد (بعد رسول الله )، أبو الخليل بن أحمد العروضي"
مولد الخليل بن أحمد الفراهيدي وبلده
كان مولده في العام المتم مائة من الهجرة (100هـ) في زمن الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز. ولا يُعلم على التحقيق أين كان مولده، وإن كان بعضهم يقول إنه ولد بمدينة عُمان على شاطئ الخليج العربي ، وعاش في البصرة
ملامح شخصية الخليل بن أحمد الفراهيدي وأخلاقه
كان الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله رجلاً صالحًا عاقلاً، وقورًا كاملاً، مفرط الذكاء، وأكثر ما كان من صفاته بعد سيادته في العلم وانقطاعه له ما كان من زهده وورعه؛ إذ كان متقللاً من الدنيا جدًّا، متقشفًا متعبدًا، صبورًا على خشونة العيش وضيقه، وكان يقول: "إني لأغلق عليَّ بابي فما يجاوزه همي"
وليس أدل على ذلك مما حكاه عنه تلميذه النضر بن شميل حيث قال: "أقام الخليل في خُصٍّ من أخصاص البصرة، لا يقدرُ على فَلْسَيْنِ، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال"
هذا، وقد رُوِي له في الزهد:
وقبلك داوى الطبيبُ المريضَ *** فعاش المريض ومات الطبيـب
فكن مستعدًّا لـداء الفنـا *** فإن الـذيهـو آتٍ قريـب
ويُحكى عنه أيضًا أنه كان كثيرًا ما ينشد بيت الأخطل:
وإذا افتقرت إلى الذَّخائر لم تجدْ *** ذُخْرًا يكون كصالح الأعمال
ومن حكايات زهده أن سليمان بن عليٍّ والي البصرة وجَّه إليه يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده نظير راتب يُجرِيه عليه، فأخرج الخليل إلى رسول سليمان خبزًا يابسًا، وقال: ما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان. فقال الرسول: فماذا أبلغه عنك؟ فأنشأ يقول:
أبلغ سليمان أني عنـه في سعـةٍ *** وفي غِنًى غير أني لسـت ذا مـالِ
سخَّى بنفسيَ أني لا أرى أحـدًا *** يموت هزلاً ولا يبقي على حـالِ
والفقر في النفس لا في المال نعرفه *** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المـالِ
فالرزق عن قَدَرٍ لا العجز ينقصـه *** ولا يزيـدك فيه حَـْولُ محتـال
فقطع عنه سليمان الراتب، فقال الخليل:
إن الذي شقَّ فمي ضامن *** للـرزق حتى يتوفـاني
حرمتني خيرًا قليلاً فما *** زادك في مالك حرمـاني
فبلغت سليمان، فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف راتبه، فقال الخليل:
وزَلَّة يكثر الشيطان إن ذكرت *** منها التعـجب جاءت من سليمـانا
لا تعجبَنَّ لخيرٍ زلَّ عن يـده *** فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا
وفوق زهده وورعه، وتقواه وعلمه، فقد كان الخليل رجلاً ظريفًا متواضعًا حسن الخُلُق؛ ومما ذُكر في ذلك أنه اشتغل عليه رجل في العروض وكان بعيد الفهم، فأقام مدةً ولم يعلق على خاطره شيء منه، قال الخليل: فقلت له يومًا: كيف تقطِّع هذا البيت؟
إذا لم تستطع شيئًا فدعـه *** وجاوزه إلى ما تستطيـع
قال الخليل: "فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته، ثم إنه نهض من عندي فلم يعُدْ إليَّ، وكأنه فهم ما أشرت إليه" وهنا يتجلَّى أدب الخليل وحسن خُلُقه مع تلامذته، وكيف كان يستعمل منهجًا تربويًّا فريدًا في تعليمه إياهم.
ومن أفضل ما عُلم عن أدب الخليل وتواضعه ما حكاه عنه أيوب بن المتوكل حيث يقول: "وكان الخليل إذا أفاد إنسانًا شيئًا لم يُرِه أنه أفاده، وإن استفاد من أحدٍ شيئًا أراه بأنه استفاد منه"وفي ذلك ما فيه من سموٍّ نفسي وإنكارٍ للذات، فضلاً عن احترام المعلم والإقرار بفضله على المتعلم؛ إذ ذاك من بعض حقوقه.
وفي مثل ذلك أيضًا ما أخبر به تلميذه النضر بن شميل حيث قال: "ما رأيت أحدًا يُطلب إليه ما عنده أشد تواضعًا منه"
وفي موقفٍ يجسِّد صفة التواضع هذه يحكي الفضل بن محمد اليزيدي فيقول: "قدم الخليل بن أحمد عليَّ وأنا على طِنْفسةٍ، فأوسعت له عليها، فأبى إلا القعود معي عليها، ثم قال: مهلاً، إن الموضع الضيق يتسع بالمتحابين، وإن الواسع من الأرض ليضيق بالمتباغضين؛ ثم أنشأ الخليل بن أحمد يقول:
يقولون لي دار المحبين قد دنـت*** وإني كئيب إن ذا لعجـيب
فقلت: وما يغني الديار وقربها*** إذا لم يكن بين القلوب قريب
شيوخ الخليل بن أحمد الفراهيدي
كغيره من أقرانه وعلماء عصره، فقد أخذ الخليل وتتلمذ على أكثر من شيخ وأستاذ، وكان منهم أيوب السختياني البصري، وقد فقه اللغة عليه، وأيضًا عاصم الأحول بن النضر البصري، والعوام بن حوشب، وغالب بن خطاف القطان البصري، وكذلك أبو عمرو بن العلاء، وعثمان بن حاضر الأزدي، وغيرهم
تلامذة الخليل بن أحمد الفراهيدي
كان تلاميذه -رحمه الله- من الكثرة والنجابة بمكان، وكان أبرزهم (سيبويه) النحوي البصري حُجَّة العربية، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، وحماد بن يزيد، وأيوب بن المتوكل البصري القارئ، وبَدَل بن المحبَّر، وداود بن المحبر، وعلي بن نصر الجهضمي الكبير، وعون بن عمارة، والمُؤَرِّج بن عمرو السدوسي، وموسى بن أيوب، والنضر بن شميل، وهارون بن موسى النحوي الأعور، ووهب بن جرير بن حازم، ويزيد بن مرة الذَّارع، والليث بن المظفر
وإذا كان من أكبر أسباب شهرة الخليل بن أحمد هو تلميذه سيبويه في مؤلَّفه الشهير (الكتاب)؛ إذ عامَّة الحكاية فيه عن الخليل، وكلما قال سيبويه في كتابه: "وسألته" من غير أن يذكر قائله، فإنما يعني بذلك الخليل
مؤلفات الخليل بن أحمد الفراهيدي
إن من أهم ما طيَّر اسم الخليل وأذاع شهرته في الآفاق هو كتابه ومعجمه البِكْر من نوعه في مصنفات اللغة العربية: (كتاب العين)، ولم يكن (العين) هو مصنَّفه الوحيد، وإنما ذكرت كتب المراجع أن له أيضًا: كتاب (فائت العين)، وكتاب (العروض)، وكتاب (الشواهد)، وكتاب (النقط والشكل)، وكتاب (النغم)، وكتاب في (معنى الحروف)، وكتاب في (العوامل)، وكتاب (الإيقاع)، وكتاب (تصريف الفعل)، وكتاب (التفاحة في النحو)، وكتاب (جملة آلات الإعراب)، وكتاب (شرح صرف الخليل)، وكتاب (الجمل)، وكتاب (المُعَمَّى)، وغيرها
منهج الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب العين
لقد رتَّب الخليل في (العين) الحروف العربية على مخارجها من الحلق على النظام التالي، كما جاء في مقدمته لكتاب العين: ع، ح،هـ، خ، غ، ق، ك، ج، ش، ض، ص، س، ز، ط، د، ت، ظ، ث، ذ، ر، ل، ن، ف، ب، م، و، ا، ي، همزة
وإذا كان الخليل قد عدَّ العين أقصى الحروف مخرجًا، فإن سيبويه يذكر أن الهمزة أقصى الحروف مخرجًا. غير أن ابن كيسان يروي أنه سمع من يذكر عن الخليل أنه قال: "لم أبدأ بالهمزة لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء الكلام ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مُبْدَلَةً، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفيَّة لا صوت لها، فنزلتُ إلى الحيز الثاني وفيه العين والحاء فوجدتُ العين أنصع الحرفين؛ فابتدأت به ليكون أحسنَ في التأليف"
وقد بسط الخليل في العين الكلام في هذه الحروف ومخارجها، فعدَّها تسعة وعشرين حرفًا، جعل منها خمسة وعشرين حرفًا صحاحًا لها أحياز ومدارج، كما جعل منها أربعة هوائية. ولقد وَسَم الخليل كتابه المعجم هذا بأول حرف اعتمده، وهو العين.
ولما كان الخليل أول واضعٍ للكلم العربي في صورة معجمية، كان عليه بعد ذلك أن يستقصي الكلمات بعد أن اختار الترتيب، وكان اعتماده على ما ساقه الصرفيون - ممن سبقه - من حصرٍ لأبنية الكلمة، وجعلها إما ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية. وعلى هذا وجد الخليل أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من دون تكرار، اثنا عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسمائة آلاف وأربعمائة واثنا عشر (12305412):
الثنائي: سبعمائة وست وخمسون (756).
الثلاثي: تسعة عشر ألفًا وستمائة وست وخمسون (19656).
الرباعي: خمسمائة ألف وأحد وتسعون ألفًا وأربعمائة (591400).
الخماسي: أحد عشر ألف ألف، وسبعمائة وثمانٍ وثلاثون ألفًا وستمائة (11738600).
اعتمد الخليل في هذا الإحصاء على تنقّل الحرف في بنيته من الكلمة، فالحرف في الكلمة الثنائية ينتج عن تنقله صورتان يكون أولاً ويكون ثانيًا، والحرف في الكلمة الثلاثية ينتج عن تنقله صور ثلاث يكون أولاً وثانيًا وثالثًا، والحرف في الكلمة الرباعية ينتج عن تنقله صور أربع، وفي الكلمة الخماسية صور خمس. ولا شك أن هذا الاستقصاء ثم الاستصفاء اقتضى من الخليل جهدًا حثيثًا، وفكرًا كبيرًا
آراء العلماء في الخليل بن أحمد الفراهيدي
إحقاقًا للحق، وامتنانًا بالفضل، وعرفانًا بالسبق فقد أثنى كثير من علماء المسلمين على الخليل بن أحمد رحمه الله، وأنزلوه المكانة اللائقة به، حتى قال عنه حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب (التنبيه على حدوث التَّصحيف): "وبعد، فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم تكن لها أصول عند علماء العرب من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيمٍ أخذه، ولا على مثال تقدَّمه احتذاه، وإنما اخترعه من ممرّ له بالصَّفَّارين من وقع مطرقة على طست، ليس فيهما حجة ولا بيان يؤديان إلى غير حليتهما أو يفيدان عين جوهرهما، فلو كانت أيامه قديمة، ورسومه بعيدة لشكَّ فيه بعض الأمم؛ لصنعته ما لم يضعه أحد منذ خلق الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره، ومن تأسيسه بناء كتاب (العين) الذي يحصر فيه لغة كل أمة من الأمم قاطبة، ثم من إمداده سيبويه في علم النحو بما صنَّف كتابه الذي هو زينة لدولة الإسلام"
وقال عنه سفيان بن عُيَيْنة رحمه الله: "من أحبَّ أن ينظرَ إلى رجلٍ خُلِق من الذهب والمسك، فلينظر إلى الخليل بن أحمد"
ويُروى عن تلميذه النضر بن شميلٍ أنه قال: "كنا نُمَيِّل بين ابن عونٍ والخليل بن أحمد أيهما نقدِّم في الزهد والعبادة، فلا ندري أيهما نقدِّم؟!" وكان يقول: "ما رأيت رجلاً أعلم بالسُّنَّة بعد ابن عونٍ من الخليل بن أحمد". وكان يقول:" أُكِلَت الدنيا بأدَب الخليل وكُتُبِه وهو في خُصٍّ لا يُشْعَر به. وكان يحج سنةً، ويغزو سنةً، وكان من الزهَّاد المنقطعين إلى الله تعالى"
وقال السيرافي: "كان الغاية في تصحيح القياس، واستخراج مسائل النحو وتعليله". وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: "كان أهل البصرة -يعني أهل العربية- من أصحاب الأهواء إلا أربعة فإنهم كانوا أصحاب سُنَّة: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، والأصمعي" وقال عنه ابن حبان في كتاب الثقات: "كان (أي الخليل) من خيار عباد الله المتقشفين في العبادة"
وفاة الخليل بن أحمد الفراهيدي
كما كان الخليل عجيبًا في حياته، متفردًا بين بني جنسه، كانت وفاته أيضًا كذلك؛ فقد أراد أن يُقرِّب نوعًا جديدًا من الحساب تمضي به الجارية إلى البائع فلا يمكنه ظلمها، فدخل المسجد وهو يُعمِل فكره في ذلك، ولكن أجله كان بالمرصاد، حيث صدمته سارية وهو غافل عنها بفكره، فانقلب على ظهره، فكانت سبب موته. وقيل: بل كان يقطِّع بحرًا من العروض، وكان ذلك بالبصرة سنة سبعين ومائة من الهجرة (170هـ) على المشهور، ودُفِن بها.
**************************************************