يتملكنى الحزن. تعصف بى الوحشة، وشعورى بالغربة بين البشر. لا شىء يفنى فى الكون. الحزن! الغربة! الوحشة! الدهشة! كلها موجودة كموجات الصوت تلف الكرة الأرضية. تقطعها من شرقها إلى غربها! تكتسحها من شمالها إلى جنوبها! تختار شخصا معينا، غالبا ما يكون مثلى. أنا والغرباء من أمثالى. كل بكاء يتيم، كل قهر ضعيف، كل حرمان فقير، كل حسرة نادم، كل لهفة عاشق، كل ندم خاطئ، كل حنين مهاجر، تصطف المشاعر حولى، تزدحم داخلى، تزحمنى، تسكننى، تنتهكنى. تختبئ بين ضلوعى وفى نظرات عينى.
لم أطق صبرا. خلعت صمتى وارتديت ملابسى. وخرجت إلى الشارع باحثا عن فرح. الناس حزانى والشارع جريح. ما أصعب خيبة الأمل! كلنا تصورنا بعد الثورة أنه قد دانت لنا أغصان الفرح. وما بيننا وبين أن نقطف ثمار السعادة إلا أن نمد أيدينا. ما أصعب أن تترمل العروس فى يوم عرسها! كيف تحولنا إلى مؤيد ومعارض يمقتون بعضهم البعض. تستكن الكراهية خلف الصدور ويخرج المقت على الألسنة. وأصبحنا على مشارف حرب أهلية!!.
مهمتى الآن أن أبحث عن شخص سعيد. تصيبنى منه عدوى الفرح. أضع تحت قدميه أثقالى. أتخفف من أحزانى. أنسى ما كان وما سيكون مما أحْذَره.
أطالع وجوه الناس. أنظر فى عيونهم. أبتسم لأغريهم بالابتسام. لا أحد يبتسم فى تلك المدينة. الضحك غير الابتسام! الضحك تقلّصُ عضلات، والبسمة انبساط من القلب. ربما يضحكون فى عصبية. لكنهم لا يبتسمون أبدا.
لمحتُ زينات معلقة. وصخب أصوات وزغاريد. تغلبت على خجلى المعتاد. اقتربت. ارتقيت الدرج. العيون تنظر نحوى فى شك. وضعت قلبى فى كفى وصافحتهم. هززت رأسى مرارا. صافحت العريس وقبّلته، داعبت العروس مهنئا. متجاهلا نظراتهم المتسائلة. الميكروفونات تصرخ! الأصوات النشاز تزعق! هؤلاء يدارون الألم بالمرح المصطنع. الحزن يزحف على قلبى. والعتمة تزحف فى الأفق. قاومت. اصطنعت المرح. زحفت إلى منتصف القاعة. رقصتُ. تمايلتُ. ضحكتُ. جذبت العروس والعريس ليرقصا. حاولتُ بكل وسعى أن أقتنص الفرح. لكن النظرات الواجمة حاصرتنى. وفجأة تحول الغناء إلى نواح. اكتشفت أنهم حزانى متوترون وفى الحقيقة تعساء. فرحٌ ليس فيه مثقال ذرة من الفرح.
غادرت حفل العرس وقد صرتُ أكثر تعاسة. الليل هبط وكذلك دموعى. البيوت تلفها الظلمة. والشرفات خالية يلفها الحزن، والشبابيك موصدة. مشيتُ فى الشارع أصرخ: «أيتها المدينة الظالم أهلها؟ هل فيكم احد سعيد؟». المارة يتجنبوننى وينظرون نحوى فى حذر. أصرخ مناديا على الناس فى البيوت. أيتها القبور التى تتظاهر بأنها بيوت، الخالية من الدفء الإنسانى، الخاوية من الفرح.
أسير فى الشوارع ببطء منكسر القلب منحنى القامة. أتمتم من بين دموعى: «اشتقت إلى طعم الفرح». وبينما أنا أهذى من الحزن شاهدته، طفلا فى حوالى العامين يجلس على التراب أمام مدخل بناية. يلعب وحده. يصنع ألعابه من الأشياء القديمة. منهمكا فى عالمه الداخلى الحافل. هذا أول وجه أراه يبتسم. توقفت أرمقه مبهورا. كان يتحدث مع نفسه بسرعة بأصوات مختلفة. ففهمت أنه يدير شخصيات الحكاية. ابتسمت فى رقة وأنا أتأمله. وقلتُ لنفسى وأنا بين الفرح والحزن:
«الحزن قرين الفهم. الأطفال وحدهم هم القادرون على اقتناص الفرح فى مثل دنيانا الموحشة».