في الذكرى الثالثة والتسعين لها.. ثــورة العشرين الصــورة الأبـهـى للجـهـاد العـراقـــي
في الذكرى الثالثة والتسعين لها.. ثــورة العشرين الصــورة الأبـهـى للجـهـاد العـراقـــي
عندما نشبت الحرب العالمية الاولى عام 1914م كانت اول المحافظات العراقية التي شهدت دخول القوات الانكليزية هي محافظة البصرة وذلك بتاريخ 22\11\1914 ثم تلتها بغداد في 11\3\1917م ثم الموصل بعد ان اوشكت الحرب على الانتهاء وذلك بتاريخ 30\10\1918، تتحدث مصادر التاريخ بان العراقيين انذاك كان همهم الاول هو الخلاص من العثمانيين الذين سيطروا على البلاد قرونا من الزمن فاهملوها حتى أضحت الفوضى وغياب القانون والتخلف هي الحالة السائدة في العراق بولاياته الثلاث البصرة وبغداد والموصل.
بشر الانكليز الشعب العراقي بانهم جاءوا الى العراق فاتحين غير مستعمرين ولهم في ذلك غاية وهي تطوير البلد ثم تحويل السيادة لابنائه ليحكموا بلدهم فيما بعد، كان الحكم البريطاني للمجتمع العراقي خلال السنوات الاولى قبل ان تندلع ثورة العشرين حكما مستبدا تخللته سلوكيات وممارسات تعاطت مع الشعب ورغباته بعنجهية وتعنت.
يقول المرحوم الدكتور على الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) معلقا على اراء بعض الكتاب الغربيين الذين اعتبروا ثورة العشرين امتدادا لحالة التمرد التي كانت سائدة اثناء السيطرة العثمانية على العراق فيقول:لم يشهد العراق في العهد التركي اية معركة اشترك فيها اهل المدن مع العشائر فقد كان هناك نوع من النفور او الاحتقار المتبادل بين العشائر وأهل المدن،ولكن هذا النفور اختفى في اثناء ثورة العشرين ولاسيما في الفرات الاوسط وقد تعاون الفريقان في الثورة تعاونا يلفت النظر كما هو معروف،فضلا عن ذلك فإن المعارك السابقة مع الاتراك لم يكن لها اية صبغة دينية الا نادرا ولم يحدث ان أفتى علماء الدين بتاييد تلك المعارك على وجه من الوجوه، اما في ثورة العشرين فقد افتى العلماء بتاييدها واعتبروها جهادا في سبيل الله وانفقوا عليها كثيرا من الحقوق الشرعية التي كانت تردهم وقد ساهم بعض العلماء في الثورة فعلا حيث رايناهم بين المحاربين وفي جبهة القتال يحثونهم على الجهاد. أما مايتعلق بالمفاهيم الوطنية،الاستقلال، وامثالها فلم تكن مالوفة لدى العراقيين في الماضي غير انها أصبحت متداولة بينهم في اثناء ثورة العشرين يلهجون بها ويهتفون لها،ومن الممكن اعتبار ثورة العشرين المدرسة الشعبية الاولى التي علمت العراقيين تلك المفاهيم وكانت البداية للوعي الوطني الذي اخذ ينمو بعد ذلك بمرور الزمن،أما من ناحية الشمولية والعمومية فيقول الوردي : لم يحدث لاية معركة من المعارك السابقة ان امتدت في انحاء العراق بمثل ذلك النطاق الواسع الذي امتدت به ثــورة العشريـن.
اما المرحوم الاستاذ عبد الرزاق الحسني فيتحدث عن ثورة العشرين في كتابه (تاريخ العراق السياسي الحديث) بالقول: (وفي الواقع ان الانكليز قرروا ان يحكموا البلاد حكما عسكريا مباشرا،فعينوا لكل لواء ولكل قضاء حاكما عسكريا وكان هؤلاء الحكام من ضباط المستعمرات الذين الفوا الحكم والسيطرة او من ضباط الجيش الذين لم يمارسوا الشؤون الادارية المدنية وقد انتفخت اوداجهم صلفا وغرورا، فازدروا الناس واحتقروهم واوصلوا انواع الاذى لهم ولم يكتفوا بذلك بل اصطنعوا طائفة مما لاأخلاق لهم فقربوهم وادنوهم حتى جعلوهم يمعنون في الارهاق،اما الكتاب وصغار الموظفين فقد كانوا من الهنود الذين تابى الشهامة العربية والاباء العربي ان يراهما على منصات الحكم وكذلك كانوا من اليهود وبعض النصارى الاجانب الذين ملأوا السلطة المحتلة وكانوا عونا لها على اذلال العرب اصحاب البلاد الشرعيين).
وعودا على بدأ، وتعقيبا على كلام المرحوم الوردي فان الثورة عمت العراق كله من اقصى شرقه الى اقصى غربه ومن شماله الى جنوبه،حتى غدا وكانه يد واحدة كلها تتجه للقصاص من الانكليز الذين اهانوا الشعب كما تتحدث مصادر التاريخ الحديث نتيجة لسياستهم غير النافعة والتي لاتنسجم ابدا مع طموحات الناس بالاستقلال وتكوين دولة عراقية مستقلة بعيدة عن الهيمنة الاجنبية.
يتحدث امين الريحاني في كتابه ملوك العرب عن ثورة العشرين وكيف اشتعلت في عموم العراق واهم اسبابها بالقول جاءت الكلمة من العلماء وفي مقدمتهم كبيرالمجتهدين في النجف، فقامت العشائر ترددها وتعمل بها فارسلت روح التمرد في البلاد سمومها فالتهمت الاخضر واليابس في المضارب وفي المدن، من النجف الى بعقوبة ومن المنتفق (ذي قار) الى الموصل والوية الاكراد حتى اخذ سياسيو بريطانيا يطلبون النجدة من مراكز المحافظات في بغداد والبصرة،وعن بعض اسباب الثورة يقول الريحاني:
ان الانكليز نقلوا الى العراق حكومة هندية قديمة عقيمة،هندية في سياستها وفي رجالها والهنود بجملتهم لايفهمون العرب ولايحترمونهم، ثم يقول: اما الغاية من الثورة فقد انحسرت كما يظهر في أمرين أولهما هو طرد الانكليز من البلاد والثاني اعلان الاستقلال..
وكما أشرنا فان الثورة امتدت الى المحافظات العراق واقضيته،وكما حدث في الفرات الاوسط من ثورة ومقاومة وجهد عشائري رائع في مقاتلة الانكليز شهدت المحافظات الغربية هي الاخرى ذات التوجه بمقاتلة الانكليز املا في تحرير البلد من سطوتهم فكان رد الانكليز قاسيا أيضا.
في كتابه (مغامرات لجمن في العراق والجزيرة العربية) يتحدث الرائد الانكليزي ن- براي عن ثورة العشرين ودور العقيد الانكليزي جرالد ليجمن في الكثير من تفاصيلها خاصة في منطقة الرمادي وصولا الى دير الزور، وحجم الاذى والضرر الذي الحقه لجمن بالمزارعين في حوض الفرات من الرجال الذين حاربوا الانكليز في ثورة العشرين فيقول: كان لجمن قد تم ارساله على عجل الى الرمادي بصفة ضابط سياسي لمنطقة الدليم،وقد سارع حال وصوله الى الاتصال باصدقائه من العرب ثم انفجر اشبه بالاعصار يغير على القرى التي يعيش الثوار فيها وبعد مجابهة شديدة معهم وصف تلك الحادثة في رسالة بعث بها لجمن الى اهله بتاريخ 16\3\1920 فيقول: (غدوت الان في الجبهة واخذنا نعلّم العربي الذي اثار الاضطراب،اذ بعد يوم من وصولنا الى هنا ذهبنا مسافة عشرين ميلا اخرى في اعالي النهر فوجدنا الاعراب قد توقفوا عن ممارسة الزراعة فكانت هنالك حيلة قديمة لبعض العشائر شبه المتحضرة هي انهم ما ان يروا رجالنا يقتربون منهم حتى يسارعون الى اخفاء اسلحتهم ويحملون مناجلهم ويتظاهرون بانهم من المزارعين المسالمين المجدين في اعمالهم ومن ثم ينتظرون الى ان يمر الخطر ليتم التخلي عن المحصول الزراعي والقيام باعمال القتل والسلب والنهب.
ولذلك حرقنا ماطوله عشرة اميال من الاكواخ المنتشرة فيها،وسقنا امامنا كل مافيها من الماشية ودمرنا كل شيء كنا نستطيع ان نراه وذبحنا عمدا قلة من الاعراب الذين القينا القبض عليهم في الطريق كانت نتيجة ذلك انهم الان يريدون ان يعلنوا السلام...... لكنهم خطرون جدا فقد قتلوا ستة ضباط في مدى عشرة ايام وصمدوا امامنا في قتال عددنا فيه ستين من قتلاهم على وجه البسيطة سوف امكث هنا الى ان امسك بهم مسكة اليد وعن حجم التدمير التي قامت به القوات الانكليزية ومنها الطائرات فيذكر لجمن في رسالته الى اهله قائلا ان طائراتنا تجوب السماء وهي تدمر كل ماهو قائم في الريف.
ومن هنا نستنتج ان ثورة العشرين، كانت انطلاقة عراقية رائعة نحو تحرير البلد من المحتل ساهمت فيها العشائر العراقية جميعا مع رجال الدين من الطائفتين فضلا عن بقية شرائح المجتمع،فكانت بحق صورة رائعة للتلاحم الشعبي العراقي،فكم نحن بحاجة له هذه الايام لغرض المحافظة على البلد وتاريخه وعظمة ناسه الكرام.