ثورة 14 تموز 1958 في العراق وصراع الأجيال
الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل
فسرت ثورة 14 تموز 1958 بعدة عوامل ، وكتب عن دوافعها الكثير، ولسنا هنا بصدد الآنيان بهذه العوامل والتفاسير، بل نحن معنيون في هذه العجالة بتسليط الضوء على نظرية مهمة اعتمدها بعض الباحثين والمؤرخين في دراستهم للدوافع الحقيقية التي كانت وراء نشوب ثورة 14 تموز 1958 في العراق. ويطلق على هذه النظرية اسم ( نظرية صراع الأجيال) . وبالتأكيد فهي ليست نظرية جديدة، ذلك أن علماء الاجتماع تحدثوا عنها بإسهاب ولكن المؤرخين جاؤوا ليستندوا أليها في تفسيرهم لبعض الأحداث ومن هذه الإحداث ماوقع في العراق صبيحة يوم 14 تموز 1958 حين خرجت طلائع الجيش ، متمثلة بتنظيم الضباط الأحرار المتعاونين مع قادة جبهة الاتحاد الوطني، لتسقط النظام الملكي الرجعي المتعاون مع الاستعمار البريطاني وتقيم جمهورية العراق.
لقد كان السياسي والمحامي العراقي حسين جميل، وهو أحد قادة الحزب الوطني الديمقراطي من أوائل الذين انتبهوا الى أن ثورة 14 تموز 1958 هي ((ثورة الجيل الجديد على الجيل القديم)) ، وذلك من خلال كتابه الموسوم
العراق الجديد) والذي هو بالأصل محاضرة ألقاها في نيودلهي بالهند حيث كان يعمل سفيرا للعراق هناك بتاريخ 29 أيلول 1958 أي بعد اندلاع الثورة بوقت قصير بدعوة من المعهد الهندي للدراسات الدولية التابع لجامعة دلهي. ويعد هذا الكتاب -في اعتقادي- أول دراسة عراقية عن ثورة 14 تموز، وفيها درس المؤلف الثورة ولماذا حدثت؟ وذلك في محاولة منه لوضع وتثبيت الحدود بين ماأسماه ( عراق ماقبل الثورة)و( عراق مابعد الثورة). وقد ركز المؤلف على موضوعين أساسيين، الأول: أوضاع العراق قبل الثورة، وابتداء بالاحتلال البريطاني 1914- 1918، والثورة العراقية الكبرى في 1920، ووقف عند أساليب ووسائل الحكم الملكي، واستقصى تلك الوسائل، ومهد للموضوع المهم الثاني وهو( أسباب ثورة 14 تموز) قائلا: (( أن الطبقة الحاكمة في العراق، لم تستطع أن تدرك أن المجتمع العراقي كان قد تحول ، بالرغم من محاولتها المحافظة على الأوضاع فيه)). وأضاف : (( أن السلطة الحاكمة استخدمت القمع لمنع انتقال الحكم الى الشعب عن طريق ممثليه الحقيقيين الذين يعملون لصالحه))، ووصل المؤلف الى نتيجة مهمة مؤداها: (( أن ثورة 14تموز 1958 كانت انطلاقا للقوى الاجتماعية المتطورة اقتصاديا، والتي منعها النظام القديم من أن تشغل المركز الذي يؤهلها له ذلك التطور الاقتصادي)).
لقد أدرك المستعمرون البريطانيون، طبيعة التحولات التي كانت تجري في المجتمع العراقي ، لكن السلطة الملكية أتذاك ظلت عاجزة عن أن تستوعب هذه التحولات، وتفسح المجال لأجراء بعض الإصلاحات التي كانت تطالب بها القوى السياسية المعارضة، وخاصة الأحزاب البرلمانية التي تؤمن بالوصول الى السلطة عن طريق البرلمان والتطور التدريجي . ويذكر المؤرخ العراقي الدكتور فاضل حسين في كتابه الموسوم: ( تاريخ الحزب الوطني الديمقراطي) أن الانكليز دأبوا على إرسال صحفيين ونواب انكليز لمعرفة اتجاهات الرأي العام العراقي ، وكان هؤلاء يتصلون بزعماء المعارضة ثم يقدمون التقارير الى حكومتهم لاتخاذ مايلزم. وأضاف في كتابه
سقوط النظام الملكي) أن( صموئيل فول) السكرتير الشرقي في السفارة استطلع سنة 1957 رأي بعض الشباب المثقف المعارضين للحكم الملكي ورغب في معرفة أسباب معارضيهم، فهاجموا الانكليز لمساندتهم ذلك الحكم. وذكر الدكتور مجيد خدوري، المؤرخ العراقي المغترب أن( صموئيل فول) قدم مذكرة الى حكومته اقترح فيها أن تضغط على الحكومة العراقية وتدعوها لأجراء إصلاحات قبل أن يفلت الأمر من أيديها وأيديهم. وأضاف أن( السير مايكل رأيت) السفير البريطاني في العراق قابل عبد الله بكر رئيس الديوان الملكي قبل الثورة بفترة قصيرة، وحاول أن يقنعه بضرورة أجراء أصلاح اجتماعي واقتصادي وذلك بالتقليل من نفوذ شيوخ العشائر، فأجابه عبد الله بكر أن هؤلاء يعدون العمود الفقري للنظام الملكي.
لقد طور الدكتور مجيد خدوري نظرية صراع الأجيال وذلك بعد فترة طويلة من إصدار كتابه( العراق الجمهوري)، ففي شباط سنة 1987 أجرت معه مجلة أفاق عربية (العراقية )حوارا حول الثورة قال فيه: (( أن الجيل الجديد في العراق شعر بالهوة التي تفصله عن الجيل القديم .. وحاول الجيل الجديد، أن يؤثر على الجيل القديم، فسعى الى الاشتراك في السلطة .. فلم يجد المجال ، بل العكس كان مضطهدا، فبدأت روح التذمر من الأسفل الى الأعلى، وعدم الاكتفاء وفي الوقت ذاته ، كان ها الجيل الجديد يشعر بقوته وقابلياته ،للمشاركة في الحياة العامة ، وعندما لم يجد مجالا للاشتراك حصل الضغط الاجتماعي . وقد حصل في تجربة العراق، أن الضباط استجابوا لمطامح هذا الجيل، لأنهم يشتركون معهم في المعاناة نفسها، فهم أبناء مرحلة واحدة، لهم أمالهم وطموحاتهم المتشابهة وكان ذلك يعني أن الضباط يقوون بثورة على الجيل القديم، ومن ثم يأتي الجيل الجديد ليبدأ مسيرته)).
وبغض النظر عما حدث بعد نجاح الثورة من صراعات بين القائدين العسكريين الزعيم (العميد )الركن عبد الكريم قاسم و العقيد الركن عبد السلام محمد عارف وما تركته تلك الصراعات من أثار سلبية ، فان الذي حدث هو ثورة الجيل الجديد على الجيل القديم، ونقصد هنا بالجيل القديم، أولئك الذين تسلموا مقاليد الحكم في العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية1918 وظهور الكيانات السياسية العربية على أنقاضها ، ومن ذلك كيان العراق السياسي الحديث وأبرز هؤلاء نورى السعيد، وجميل المدفعي، وتوفيق السويدي، وعلى جودت الأيوبي، وارشد العمري، واحمد مختار بابان، وعبد الوهاب مرجان ، وغيرهم من الذين تخرجوا من المدارس والمعاهد العسكرية والمدنية العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. أما الجيل الجديد فهم الذين ولدوا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى1918 وتشكيل الدولة العراقية 1921 .
وقد يكون من المناسب هنا الإشارة الى أن بعض السياسيين البارزين في العهد الملكي، قد أكدوا في مذكراتهم التي نشروها بعد سقوط الحكم الملكي على حقيقة الصراع بين الأجيال وأشاروا الى تجاهل السلطة الحاكمة هذه الحقيقة ، ولعل من ابرز هؤلاء خليل كنه ، وهو من المحسوبين على جماعة نوري السعيد، مع انه كان في مطلع حياته السياسية من شباب حزب الاستقلال ،عمل وزيرا للمعارف والمالية وكان نائبا في مجلس النواب ، واصدر بعد الثورة كتابه ( العراق: أمسه وغده) والذي يذكر فيه أن نوري السعيد (( أهمل الشباب، واخفق في تقدير دورهم الفعال في توجيه الرأي العام ، مما حملهم على اليأس من الإصلاح)) وأضاف: أن الناس ، في العراق، قد سئموا وجوه القائمين بالحكم ، وأساليبهم الروتينية التي يسيرون بها البلاد، وكان الشعب يتطلع الى وجوه جديدة تأتي بالإصلاحات المنشودة ولم تتمكن السلطات القائمة آنذاك أن تجاري التطورات الثوري التي اجتاحت بعض البلاد العربية كسوريا ومصر .. فصاروا يتطلعون الى اليوم السعيد الذي تقع فيه الثورة)).
وهكذا كانت الثورة المجيدة التي وقعت صبيحة يوم 14 تموز 1958 نقطة تحول في تاريخ العراق الحديث، وهي لم تأت من فراغ، بل جاءت ضمن سياق حتمي تاريخي في تطور المجتمع العراقي، وحصيلة نضال طويل وشاق من اجل التحرر والاستقلال والتخلص من الظلم والعبودية.
*المصدر :مدونة الدكتور ابراهيم خليل العلاف