محمود درويش :أحنّ إلى خبز أمي
لم يكن استخدام محمود درويش لمفردة الأم استخداماً رمزياً يحيل إلى الأرض أو الوطن فحسب، كما جيرتها القراءات المبكرة لشعر المقاومة ، وأوَّلتها المقاربات السياسية لشعر درويش، بل هو استخدام عاطفي يمجد وجودها في حياته الخاصة ، ويرى فيها سببا آخر يبرر اعتقاده بأن( على الأرض ما يستحق الحياة )، لذا سيخجل من موته الذي يثير دمع أمه ، كما يعيده الحنين إلى ما ارتبط بتلك الأم من لوازم: خبزها ،وقهوتها ، ولمستها..
الأم ..القصيدة
الأم حاضرة مبكرا في قصائد درويش ، ويتطور وجودها و دلالتها عبر تجربته الشعرية التي بدأها بديوان(أوراق الزيتون)1964و(عصافير بلا أجنحة 1960)- الذي حذفه من سجله الشعري لأنه كما يقول عمل لا يستحق الوقوف ومحاولاته فيه غير متبلورة نظرا لحداثة سنه وتجربته و تعليمه- .وهو في كلامه خارج القصيدة يردّ تعلقه بالشعر إلى تلك الأغنيات التي كان يسمعها قبل النوم من أمه ، فتجذبه هيئات أصواتها لا معانيها ولا دلالاتها.
يتركب من هذا العشق للكلمات: المبكر والأزلي حضور لمؤثر مثلث الأبعاد: الأم –الطفولة –الشعر، وذلك سيظل يتحكم في رؤية درويش الشعرية بل سيكون سبباً لتفرده بين أصوات زملائه ممن استوعبوا الدراما الفلسطينية الفاجعة وعاشوا المأساة بتفاصيلها حتى بعد خروجه من الأرض المحتلة عام 1971 . و في قصائده اللاحقة ستكون الأم (حورية )هي الحاضرة بين الغائبين الذين يهدي إليهم ديوانه ( لماذا تركت الحصان وحيدا؟) لا لأنها كانت على قيد الحياة عند الكتابة والإهداء ، بل لأنها ذات حضور فعلي دينامي وعاطفي يغذي قصيدة درويش كما ينعش ذاكرته بما تمثله الطفولة والأغنية من استمداد شعري.
الطفولة تكبر .. لا تغادر
عاش درويش حياته كلها ( 1941-2008) طفلا تكبر طفولته معه ولا تغادر . هكذا يقول في قصيدته ( إلى أمي) التي نالت شهرتها من تلك البساطة التي كتبت بها ، و الموتيفات الأسرية ذات التأثير العاطفي الحاد كما ينتقيها من وجود الأم أو حضورها الدائم مقترنة بالطفولة .
السياق الزمني للقصيدة يعيدها إلى بواكير الشاعر؛ فهي منشورة في ديوانه( عاشق من فلسطين)1966. وكانت قد دوّت قبلها قصيدته (بطاقة هوية )التي شاعت ببيتها الأول: سجّل ! أنا عربي ، ممثلةً بدايات وعي الشاعر المصطدم بمصادرة وجوده المختزل ببطاقة الهوية ، ملاحظين أن الإحساس بالهوية تلك الفترة لم يكن بالوضوح والعمق الذي ستحمله دلالاتها اللاحقة، بل هي تداعيات على بطاقة هوية حقيقية لا رمزية.
ربما كانت أمّ القصيدة الشهيرة ببيتها الأول :أحن إلى خبز أمي ذات دلالة مباشرة أيضا، مع إمكان إسقاط ثيمة الانتماء للوطن المحتل الذي يمثل الإفصاح عنه مباشرة محظوراً لا يسمح به الاحتلال؛ فكان العشق والأرض والبيت والبطاقة واللغة هي بعض التحويلات أو الاستبدالات اللغوية والصورية الممكنة لتهريب مشاعر الرفض للاحتلال .
القصيدة من شعر درويش المعروف بأعمال الأرض المحتلة التي كتبها في جوف الحوت أو الحصار ، قبل خروجه من فلسطين الأكثر دويا في حينها من ظاهرته الشعرية نفسها. سيعلل درويش خروجه بأنه تغيير أو تبديل (في الموقع لا في الموقف). ومن القاهرة أولاً قبل هجراته المكانية المتنوعة ومنافيه سيواصل بسط فكرته عن وطنه وذاته. ولن يكون لبيان حزبه القاضي بفصله بعد خروجه أي أثر . فالشعراء لا يمنحهم أحد هوية شاعر ، وبالتالي لا أحد يملك حق أو سلطة خلْعِها عنهم.
سلطة الحنين و توسيعاته الشعرية
الفعل المضارع ( أحن ) يتصدر القصيدة ويجعل من مفعولات الحنين المضافة للأم ( بعد إلى : خبز أمي /قهوة أمي/ لمسة أمي) بطاقات تعارف مع قارئه ، يعرّفه بمسببات الحنين، ودوافعه ،ومبرراته أيضاً.
الحنين غريب كانفعال عاطفي في سياق القصيدة الزمني، فقد كتبها درويش داخل فلسطين حيث أسرته، ولكن التباعد المفروض عليه اغترابا لا غربة هو الذي يولد الحنين الذي سيولّد بدوره هذه الصور المتراكمة كتنويعات على فعل الحنين القائم في الحاضر لا الماضي، فالأم قريبة مكاناً عند كتابة القصيدة لكنها بعيدة شعورياً تفصله عنها إجراءات الاحتلال : الإبعاد والسجن والتوقيف والإقامة الجبرية وغيرها من الممارسات التي تعرض لها درويش، و لم يجد حزبه فيها ( مبرراً كافياً) للخروج مع اعترافه بها في بيان فصله.
ابتعاد الأم عنه شعورياً يمثله الحرف( إلى) في العنوان وكذلك في الاستهلال؛ فكأنه يهديها شيئا من بعيد أو يخاطبها عبر مسافة تختزلها المناجاة أو الرسالة.
ولكنّ القصيدة المبنية من ثلاثة مقاطع – تفترضها القراءة لا بإشارة رقمية من الشاعر – ترينا تداعيات فعل الحنين مرصودةً في ثمانية أبيات يستهل بها القصيدة ، ويكرر فيها (الأم ) بالإضافة أربع مرات أي بمعدل مرة كل بيتين. وهي وصف خارجي لحنينه ، سرعان ما يستدير به في المقطع الثاني إلى مناجاة الأم ذاتها ومخاطبتها (خذيني..) و في المقطع الثالث أيضاً( ضعيني..) وكل منهما مؤلّف من عشرة أبيات لا ترد فيها مفردة (الأم ) بل يشار إليها بلوازمها أو معادلاتها الموضوعية الدالة عليها مثل : هدبها ووشاحها وكعبها وشَعرها وذيل ثوبها و قرارة قلبها ونار تنورها وحبل غسيلها وسطح دارها وصَلاتها النهارية ونجوم الطفولة في كنفها، وأخيراً عش انتظارها الذي تأوي إليه صغار العصافير=إخوته كنايةً عن ألفة البيت بمحتوياته وطقسه
يحيط الحنين بهذه التداعيات التي يقع بعضها في الذرّية والفيتيشية – الحنين المستثار بقطعة بسيطة أو دالٍّ مهمل- هذا إذا احتكمنا إلى المحددات النفسية للحنين ودينامياته وتأويلاته .
يكتب درويش نصا نثريا مطولا عن الحنين في كتابه في (حضرة الغياب) أقتطف منه دون تسلسل : ((الحنين هو صوت الريح .وكلما توغلت في وحدتك أخذك الحنين برفق أمومي..الحنين هو اختصاص الذاكرة في تجميل ما احتجب من المشهد، توق الكلمات إلى حيزها الأول..ندبة في القلب وبصمة البلد على جسد. الحنين هو الوجع الذي يسببه الهواء النقي القادم من أعالي جبل بعيد. يذكّرنا بأننا مرضى الأمل..)).
هذه التداعيات - لاسيما ذِكر الرفق الأمومي والحيّز الأول للكلمات - تعضّد الفعل ( أحنّ ) الذي تفجرت منه القصيدة ، وتوسعت بحركاتها الثلاث : مسميات الحنين الأمومي ، ومخاطبة الأم ليتماهى الشاعر في ذاتها و كلّيتها وأشيائها ، ثم مقطع الختام كنداء للأم لتضعه في محيطها مرموزا إليه بالتنور-بعودة للخبز- و حبل الغسيل والسطح والعش .
الهمس والغضب
السياق الذي كَتبت فيه القصيدة يفرض – ويفترض - الالتحام بالعدو سالب البيوت وباني المستعمرات فوق أنقاضها ، لكن القصيدة تبدو شديدة الهدوء ، هامسة بالقياس إلى مثيلاتها من أعمال الأرض المحتلة في العقد الأول من عمر درويش الشعري المميزة بالهيجان اللغوي والعاطفي والصوري والمباشرة وارتفاع الصوت ، وهو ما أعلن عنه درويش نفسه مخاطباً القارئ في أولى صفحات ديوانه (أوراق الزيتون): ( يا قارئي ! لا ترجُ مني الهمسَ/لا ترجُ الطربْ/ حسبي بأني غاضبٌ / والنار أولها غضبْ) .
ويعكس الهدوء والتسلسل النغمي الخافت سيطرة الحنين وتداعيات العاطفة الأمومية على القصيدة التي صيرتها الأغنية لاحقاً- بصوت مارسيل خليفة- إشارة لشعر درويش الأُسري المحيل إلى ما في الوطن من أواصر تبرر ذلك الحنين الجارف الذي سيهدأ كلما نضج درويش فنياً ، فنجح بأسطرة قضيته وترميزها بلا شعارات توقِعها في الخطاب السياسي المباشر.
الخبز أول التذكرات رمزا يختصر الخلق والحياة : أيام كلكامش تحصى به ، و النذور التي تقدم لقيامة تموز ، والحلم بتأويل يوسف ، ومادة العشاء الأخير ،والقسَم به في الريف والكناية عن العيش (خبزه يساوي رزقه) تليه القهوة رائحة البيت الصباحية ،واللمسة الحانية من يد الأم أيضا.
مدونات الطفولة
ستشتهر قصائد لدرويش عالية الأداء والدلالة مثل: عاشق من فلسطين، وسرحان يشرب القهوة في الكافتيريا ، وأحمد الزعتر ،و أحد عشر كوكبا ، ولماذا تركت الحصان وحيدا ، ويطير الحمام، وعابرون في كلام عابر، ومأساة النرجس وملهاة الفضة ، والهدهد ، وموسيقى عربية، وقصيدة الأرض، وجدارية، ومديح الظل العالي.. وسواها لكن أوليات الوعي المدون في سيرة درويش الشعرية ستكون له أهمية في قراءته ، و(إلى أمي ) هي إحدى تلك المدونات الشواهد على طفولة ستستمر لأنها تكبر- في – الشاعر كما يقول ، ولا تنسحب لزوايا النسيان. وسيعززها استباق فعل الموت، والخجل من دمع الأم ؛لأن الشاعر سيكون سببا فيه عبر حادثة موته ،بل يمكن فهم مرونة لغته وانزياحاته وسخريته ولعبه الصوري والمجانسات بناء على تلك الطفولة التي تكبر داخله.
في زيارة لاحقة لمدرسته الأولى بفلسطين يقول درويش إن هذا المكان كان كبيرا عليه حين كان صغيرا فيه، ولكن منه بدأت أول أشيائه التس يذكر منها: قصيدته الأولى وزنزانته وأسئلته وحريته وكذلك عذاب غربته التي قال إنه لا شفاء منها فحملها حتى رحيله مريضا بالأمل ومضيئا بلهب الحنين.
إلى أمي
أحنَّ إلى خبز أمي
وقهوةِ أمي
ولمسةِ أمي
وتكبر فيّ الطفولةُ
يوما على صدر يومِ
وأعشقُ عمري لأني
إذا متُّ ،
أخجل من دمع أمي!
خذيني إذا عدت ُ يوماً
وشاحاً لهدبكْ
وغطي عظامي بعشبٍ
تعمّد في ظهرِ كعبِكْ
وشدّي وثاقي..
بخصلة شَعرٍ..
بخيطٍ يلوّح في ذيل ثوبكْ..
عساني أصير إلهاً
إلها أصيرُ
إذا ما لمستُ قرارةَ قلبِكْ!
ضعيني إذا ما رجعتُ
وقوداً بتنّورِ ناركْ
وحبلَ غسيلٍ على سطح دارِكْ
لأني فقدتُ الوقوفَ
بدون صلاة نهاركْ
هرمتُ فردّي نجوم الطفولةِ
حتى أشاركْ
صغارَ العصافير
دربَ الرجوعِ ..
لِعشِّ انتظارِكْ
**************************************************