توطئة
بعض الدفاتر القديمة وكتب الأدب النادرة
مثل رسالة الغفران ... وقطوف الريحان
، نوادر الأيك ، تحفة العروس ، وغيرها لكاميلو خوسية
، وكولن ولسون ، مارتن هايدجر ومراد هوفمان ، نيتشة ،
وبعض الكتب العلمية ، ثم الكثير من القصاصات التي كتبت عليها
بأقلام إمرأة تخاطب أسطح القراطيس البيضاء ...
فقد كانت تلك المجموعة مبعثرة هنا وهناك
بين أكوام الخرد التالفة داخل خزانة البيت
المهجور ... حملت تلك المكتبة العتيقة
و تركت عمال الصيانة
منهمكين في أعمالهم
وفيما يبدو أن تاريخ حياة تلك المرأة يعود
إلى الخمسينات ... أو ما قبلها فلم أقطع الشك باليقين التام
فقد وجدت من بين تلك الأوراق كلمات أغنية حارم وصلي مالك ...
للشاعر العبقري محمد بشير عتيق
على إحدى صفحات الدفاتر والتي كان مولدها
بإذاعة إم درمان في عام 1947
للراحل المقيم ... عثمان حسين
فهل تلك المرأة ما زالت على قيد الحياة
أم رحلت كما رحل هرم الغناء ...
كانت تكتب الكثير من القصاصات ذات الطابع المميز بعض الشئ
ربما تعبُر بك خط التعجب لحظة الإندهاش والتشبث بجدران
الصمت ، عندما تنتقل بك إلي ساحة الأخيلة مع إنسياب
أفكارها في مضمون الإرث الثقافي والحضور الذهني
كانت تقف مع النفس المتجردة من كل خيوط الإطلاق
و التجارة الحروفية كنقطة إنطلاق بأسنة أقلامها
المرهفة إلي آفاق منطقية داخل إطار الوعي والإدراك
الحسي والمعنوي كي تتماشى مع صيرورة الحياة المعاشة
بكل مداخلاتها الثقافية والإجتماعية والروحية
ضمن دائرة هلامية مشبعة بعبق الأحرف
فكتب في إحدى مذكراتها ... مقالاً عن ... أخيلة التعاسة ، نيل وليل ،
هموم جارفة ، همسات في الظلام ، حلاوة ساخنة فوق النار
، شجون بلا قيود ، وقت الأسحار وشجار الأفكار ،
قانون الرجال و كلام حريم في التنعيم ... والكثير من المقالات
التي لا يسعني حصرها في هذه العجالة
ولكن لا بأس بأن أكتب إليكم من بعض ما قرأت
مذكرات إمرأة في البيت المهجور
أخيلة التعاسة
ذات ليلة جلس زوجي موثقاً بحبال الصمت
يطالع بعض الصحف اليومية تارة ويسرح بعيداً تارةً أخرى
كأنما يحاول معرفة ما بخارج الجدار أو ما بداخل طبقاته السميكة
كان يتخيل دائماً ... في إحدى الزوايا أنوال العناكب ودبيب الحشرات
وحفيف الأوراق التي تبعثرت هنا وهناك تمرح بين روائح التبغ الكريهة
التي تنبعث من أعقاب الفلاتر ذات السلولوز
الذي يمر من خلاله دخان السجائر إلي حويصلات الرئتين
مسبقاً قبل أن يعي مخاطر وأضرارالتدخين و الإقلاع عنه
فتلك كانت حليفته في دنيا الكآبة خلال أيامه الخوالي ،
عندما كان إفتقاره للرفاق خليط من الصبر
والنشوة يتخبط بين فرحة اللقاء وشجون
الذكريات ، ولكنه تجاهل تماماً صرخته العاتية
عندما هاجت أوصاله المرتعشة حينما حبلت به
الكآبة وتمخض به اليأس ووضعته المحبة
في مهد الأحلام لحظة تعارفنا أول مرة قبل الزواج
كان غارقاً في محيط العاطفة يبحر وحيداً
ثم يعلو الموج فيستشرق الدنيا ليغوص في
أعماقها حابساً أنفاسه بين شُعب الذاكرة
يخاطب بنات أفكاره مبتسماً لصورتي
العالقة بخياله ... كان يتمنى أن يخطو بجواري
ولو لدقائق معدودة فقط ، ثم ينصرف لجدرانه ثانية
فها هي الجدران ظلت متربصة بخياله لتظهر من جديد
واقعاً وصوراً تجسد شيئاً من الماضي القريب
فاضطرب صدره وكبرت نفسه وتعالت قامته
وتغيرت ملامح وجهه المشرق فعبس
ووضع الصحيفة التي كان ممسكاً بها جانباً
ثم تلفت تجاهي مستنكراً وجود تلك الألوان الداكنة
التي أصبحت كالوشم على ركبي ...
كما كان يتخيلها في ذاك الوقت
فقال لي بكل وقاحة ربما مرضاً جلدياً أصابك
بل أكد تماماً بأني مصابة بداء التنيا الملونة
فالكثير من الناس يطلقون عليه سويداء الميلانين
فقلت بكل سرور ... إنها من آثار الحمل في
العام الماضي ولا داعي للقلق والتوتر ...
على الرغم من أني أدرك جيداً بأن لون بشرتي طبيعي
ولم يحدث لها أي تغيير إطلاقاً ... بل لم أخوض من قبل
في أي تجارب مع مساحيق تفيتيح البشرة...
التي بدأ ظهورها في بعض الأحياء الراقية
فانتفخ صدره كما تعود دائماً .. ثم أشاح ببصره عني
فأدار وجهه بإزدراء تجاه طفله الرضيع
الذي كان يغط في سبات عميق ... أنظري هنا ...نعم هنا
وهو يشير إلي ركبة إبنه المتسخة الداكنة اللون ...
(من أثر الحبو على الأرض) وأردف متمتماً ..
وهو يرفع رداءه الممزق ، إن ركبي بيضاء ولا يشوبها
شائب فكل مافي الأمر أن مرضاً وراثياً قد إنتقل إلى
إليكم معاً ... فأرجوا أن تدققي النظر بعينين فاحصتين
لاحقاً في كل أفراد أسرتكم حتى تتأكدي ...عزيزتي
ثم ضحك بطريقة هستيرية تغيرت معها ملامح وجهه
كأنما كلماته البسيطة قد أوحت إليه فكراً جديداً .. فنظر في عيني بنظرة
غريبة تغوص في عالم الأرواح ... يبحث عن ضالته كما يفعل في بداية كل حوار ،
ثم قال بنبرة مختلفة عن صوته العادي ... والتي تبرز شخصيتة الأخرى
: ربما تحتاجين إلي كورتيزون موضعي
أو أشعة فوق البنفسجية أو أملاح البحر الفعالة في عملية التقشير
، فلا داعي إطلاقاً لتلك المساحيق والكريمات التي بدأت تنتشر
في هذه الأيام لدى بعض البيوت أن كان بيتاً أسمراً أو شديد البياض ، فهي
مؤكداً لا توحد لون البشر إطلاقاً ... ثم فرقع أصابع كفيه جملة
و صار صوته يعلو شيئاً فشيئاً لينحرف خارجاً عن بوصلة
الفكر والعلوم الطبية فتضاعف عنده فوبيا الإختصاص
وظل يتحدث بإسهاب عن الأمراض الجلدية وعمليات التجميل وغيرها...
.......
خرجت من حيث كنت أحمل تلك الجمجمة التي إتسع حجمها
وصرت غير قادرة على حملها ... خرجت أحدث نفسي بشفاة مرتعشة
وأفكاري المتضعضعة ولم أنبس ببنت شفة ، بينما ظل يتبعني بتلك النظرة الغريبة
التي أفهمها جيداً ، فعتقت نفسي فوراً من عالم المقاييس والكمية
ودنيا التباهي وعلم الجمال إلي مسارح الألم المبرح ...
لأكتشف الحقيقة العارية من كل ثوب ...
كنت فقط أتأمل وتتحرك سواكن أعماقي كي تزيح أغشية التعاسة
فأطلق العنان لدموعي الجارفة ثم أتأوه و أجهش بالبكاء
دون إكتفاء مبللة الخدين والرداء ، إلى أن عجزت مخارخ النطق
عن بوح النواح ولزمت الصمت المميت عندما شاخت
غدد الدمع المخبوءة ، لينوب عنها ذاك القلب الكئب الكامن
تحت طيات الظلام كطائر سجين يخفق بتلاحق مستمر ،
كأنما يطلب الخروج إلي ساحات العويل والفرح السقيم ،
يركض بين الضلوع كما تركض الخيل في سهول الوادي السحيق .
راق لي
**************************************************