لم يعرف العرب في جاهليتهم أو خلال العهدين الأموي والعباسي مشروب القهوة حيث أننا لم نعثر فيما ورثناه من آدابهم وشعرهم على ما يدل على وجود نصوص تتحدث عن وجودها وانتشارها ونعتقد أن القهوة قد وصلت إلينا في العصور الحديثة وأولها عصر الاكتشافات الجغرافية التي نشطت في القرن الخامس عشر الميلادي ويظهر أن التجار العرب عرفوها في الهند وسيلان.
واكتسبت تسميتها باسم موطنها فقيل"قهوة عدنية أو يمنية أو سيلانية"وأخيراً شاعت زراعتها في البرازيل وكولومبيا.
وكادت تنشأ مع انتشار القهوة مشكلة اجتماعية فقهية مما اقتضى آنذاك إصدار فتوى شرعية لقبولها،هذا ما حدث حينما تعرف العثمانيون إلى القهوة في وائل القرن السادس عشر،فقد بدأ السلاطين بإصدار الأوامر بتحريمها بين عمي(1511-1546)وذلك لظنهم أنها من جنس الخمرة بسبب الإقبال عليها وانتشارها سرياً،ويقال أن أحد الشيوخ دخل على شبان وقد جلسوا حول مصباح مضاء وهم يشربون شراباً ولما أحسوا بقدوم الشيخ أطفئوا المصباح وخبئوا الشراب فألح الشيخ عليهم ليعرف ما يشربون فأبرزوا له إبريق القهوة المرة وقد خافوا الشيخ لاعتقادهم أنها مسكرة، فيمنعهم من تعاطيها فبحث موضوع تحريم القهوة وخلصوا إلى نتيجة هي: إباحة القهوة لانتقاء المسكر منها.
القهوة لغوياً:
القهوة لغة هي اللبن، وهو الشراب التقليدي الذي بدأ البدوي بتقديمه لضيوفه، ثم دخلت الخمرة في الاستعمال، فأطلق عليها اسم القهوة لأنها تقهى أي تقلل الشهية للطعام،ثم صُرف المعنى إلى مغلي القهوة بعد تحميصها ودقها حتى تسحق،كما أطلق اسم القهوة على مكان تقديم مشربها.
وعن تاريخ القهوة واستعمالها في الجبل " مثالاً " تحدث بعضٌ من الشعراء الشعبيين حيث قالوا:
إن من مستلزمات المضافة الأولية في جبل العرب والأكثر أهمية تقديم مشروب القهوة المرة للضيوف الذين يأتون دون سابق إخبار.فالضيوف يأتون ساعة يشاؤون فلذا يجب أن تكون القهوة المرة جاهزة دوماً،فهي عنوان الكرم والكرامة عند أهل الجبل،فعندما يأتي الزائر إلى المضافة فعليه أولاً أن ينبه لوجوده الدخول كأن يقول:"وين راحوا المعازيب"فيجب أصحاب الدار طلبه بقولهم"أهلاً وسهلا،حياك الله،تفضل يا ضيف".
قبل هذا يكون صاحب المضافة وفي كل صباح باكر قد افتتح أعماله بإعداد القهوة فيعمّرها دائماً ودعوا إليه الضيوف لتبقى قهوته عامرة،وحق هنا تعمير القهوة عند أهل الجبل لكبير السن-أولاً لتفرغه بعمل القهوة-ثانياً لخبرته الطويلة بصناعتها-ثالثاً أن القهوة لا تقبل أي متدخل عليها وتعتمد على النظافة الكاملة،فقد رويت حكاية قديمة بهذا الخصوص تبين شيئاً من تقاليد إعداد القهوة:
(( يقال أن امرأة ذكية،نبيهة العقل،دخلت على أحد الشيوخ فسكب لها فنجان القهوة وعندما تذوقتها، قالت له"القهوة ملموسة (أي يداً لمستها)، ثم سكب الشيخ فنجاناً آخر،قال لها: ما رأيك، قالت له:القهوة منفوسة (بمعنى أن العبد الذي سكب القهوة نفخ عليها وهذا لا يجوز) احتار الشيخ في أمرها وقال للعبد أضف إلى القهوة قليلاً من الشعير لنرى،ولا تلمسها ولا تنفخ عليها،فقدمها للمرأة وقال لها ما رأيك،قالت له:لذيذة حتى ولو كان فيها شعير)).
إن هذه المقدمة للتعريف بأن القهوة لا يجب أن تلمس
ويجب أن تستخدم قي إعدادها أدوات خاصة هي:
-أول هذه الأدوات"المجربة" أو الجراب"وهو الكيس الذي تحتفظ فه حبات القهوة النيئة ، ثم المحماسة وهي صحن سميك من الحديد الأسود له ساعد بطول/50 إلى 60 سم/ويتبعها يد المحماسة على شكل ملعقة كبيرة تقلب بواسطتها حبات القهوة عند التحميص ثم المبردة وهي وعاء خشبي سميك تسكب فيها القهوة عند التحميص لتبرد.
-النجر أو الجرن:وهو مصنوع من جذع شجرة البطم مجوّف من الداخل ومزخرف من الخارج توضع فيه القهوة المحمصة لدقها بواسطة عصا المهباج وهي عصا غليظة بطول الذراع تقريباً،فقد كانوا قديماً يستخدمونها لطحن البن استخداماً جعلهم يتفننون فيه ليصدر بلحنٍ إيقاعي موسيقي جميل.
أما الأباريق اللازمة لعمل القهوة فتصنع من النحاس وهي:دلة لحفظ الخمير وإبريق تطبخ فيه القهوة ثم إبريق التصفية.
لقد قال كثرٌ من الشعراء بالقهوة قصائد:
بنت العدن كـل البـوادي تجـلاسمرة دريرة قدرها يرفع الشـان
مطغوثة بالهـال شهـاك زلـهمعنبر شذاها يدعي للفكر نشوان
يصحي خوي الراس من فوح دلّهوشفي ظني الياس لوشف فنجان
لقد كانت القهوة قديماً ثواباً وعقاباً،لعدم وجود حكومات فمن كان يقوم بعمل بارز كانوا يكرمونه بشرب القهوة،أما الذي كان يقوم بعمل سيء يحرمونه شرب القهوة(بسكب الفنجان له وعندما يصل إليه يسكب أمامه9دمت القهوة لبعث الشجاعة والحماسة في نفوس الرجال وعلى ساقي القهوة واجبات وكذلك على شارب فنجان القهوة.
وأيضاً بهذا الخصوص يحدثنا أحد الشعراء بقوله:
-على الساقي أن يشرب الفنجان الأول قبل تقديمه للزائرين.
-على الساقي أن يقف أمام الزائر ويصب له الفنجان بعد الفنجان،ولا يجوز تقديم القهوة من الساقي وهو جالس،إلاّ إذا رفع التكليف بينهما كصديقين أو قريبين،ويقدمه باليد اليمنى.
-على الساقي أن كرر صب القهوة مرتين للشارب إلى أن يعلن الشارب عن اكتفاءه بالعبارة أو بالإشارة وتكون عادةً بهز الفنجان بعد شربه.
-يبدأ الساقي يصب القهوة للزوار بدءاً من أحدهم الذي اختصه بالفنجان الأول نظراً لبعد ديرته،أو لكبر سنّه،أو احتراماً لمكانته ثم يتابع بعدها تقديم القهوة من اليمين إلى اليسار دون تمييز بن الشاربين وقاعدتها//أول فنجان خصّ ثم قصّ//.
-لا يجوز إرسال الفنجان للشارب بوساطة أحد،إلاّ إذا كان الساقي عاجزاً عن النهوض أو الحركة أو عند قبول العذر و ارتفاع المجاملة بينهما،ولا يجوز غسل الفنجان بعد شربه مباشرةً لمظنة السوء من الشارب.
-لا يجوز أن يكون الفنجان مليئاً.
-نظافة المعاميل وحسن ترتبها دليل على عراقة المضافة وصاحبها.
أما واجبات الشارب:
-يجب على الشارب أن يعتدل في جلسته عند تقديم القهوة له.
-أن يتناول الفنجان بيمينه إن قدم له باليمن وله الخيار.
-لا يجوز للشارب إعلان رأيه في القهوة مدحاً أو ذماً.
-هزّ الفنجان إشارة لاكتفاء الشارب.
-لا يجوز الامتناع عن شرب القهوة إلاّ بعذرٍ صحي أو اعتذار.
-لا يجوز مسح حافة الفنجان بعد الشرب من قبل شاربه.
-إذا تناول الشارب الفنجان ووضعه أمامه دون أن يشربه فذلك يعني أنه طلب من أصحاب المضافة طلباً عزيزاً وكأنه يشترط ألاّ يشرب الفنجان قبل إجابة طلبه.
-لا يجوز شرب الماء بعد الفنجان مباشرة وإلاّ اعتبر ذلك عدم رضى من القهوة.
أما ما طرأ على إعادة شرب القهوة المرة هذه الأيام فنوجزه بما يلي:
بدأت شمس القهوة تغيب عن المدينة ليحل محلها القهوة الحلوة وتقاليدها،وتغيب القهوة المرة في بوادينا وريفنا،مع بعض الاستثناءات حيث ما زالت القهوة تقدم في مضافات وبيوت عدد قليل من أهل الجبل،وقد غابت معانيها عن أذهان الجيل الجديد،وربما كان هذا المقال لهذا التقليد الذي سوف يُمل يوماً على الرفوف المنسية للحضارة السابقة،وكما غاب من صنعوا القهوة وتفننوا وتفاخروا بها يوماً.
لقد خضعت عادة شرب القهوة كغيرها لحكم الزمان فتغيرت أدواتها وشكل صنعها،فحلت المطحنة الكهربائية بدل الجرن والمهباج ( المهباش ) - وإبريق الضغط بدل المعاميل-والترمس(البراد)بدل الغلاية-والطاولة الأنيقة بدل منقل الفحم
**************************************************