في رحاب اللغة العربية
الحمد لله الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، وصلى الله على خير من تعلم وعلّم وعلِم ، سيدنا محمد وعلى أله الطيبين الاطهار وبارك وسلّم .
تذكرت وأنا أستمع لخطبة من أحد الزعماء رفع فيها المفعول ونصب الفاعل وجرّ المبتدأ وخسف الأرض بالخبر حتى حطّم اللغة أيما تحطيم ، تذكّرتُ الطرفة الشهيرة التي تقول إن رجلاً ذهب الى نحويّ فطرق باب بيته ففتح له ابن النحويّ الباب فبادره الرجل بالسؤال قائلاً: هل أباك ..... أبوك ..... أبيك في المنزل ؟؟ فأجاب الولد : لا ، لو ، لي .
وقد يتقبل الإنسان - على مضض - بعض الأخطاء النحوية البسيطة التي قد تصدر عن غير المتخصصين ، أما أن يجدها بوفرةٍ في خطب الزعماء الكبار وخطباء المساجد والوزراء وكبار مسئولي الدول العربية فذلك أمر محزن للنفس محبط للآمال ، وليت الأمر يقتصر على رفع المنصوب أو نصب المرفوع من تلك الأخطاء النحوية الدارجة بل إنه يتعدى النحو ليصل الى الصرف نفسه فيهوي باللغة نحواً وصرفاً الى الدرك الأسفل من العيّ ، فلا يترك منها حرفاً سليماً ولا اسماً كريماً ولا فعلاً قويماً ، وهل اللغة بأجمعها إلا اسم وفعل وحرف ؟؟
لقد كان الأولون حريصين على اللغة حرصاً لم تعرفه الأمم على مر التاريخ الإنساني ، فكانوا يتحرون الكلمة الصائبة للغرض المطلوب أيما تحرٍّ ، فلا يضعون وصفاً في غير محله ، بل ويتذوقون الكلام بأفضل مما يتذوقون الطعام . حتى أن الشاعر الفرزدق كان راكباً بغلته ذات يوم فسمع أحد الشعراء يقول شعراً حتى إذا بلغ بيتاً جميلاً من القصيدة نزل الفرزدق عن بغلته وخر ساجداً ، فلما سألوه عن ذلك قال : هذا بيت فيه سجدة !!
وبلغ بهم غنى اللغة أنهم كانوا يتقنون السجع ويتفننون فيه ، فيحكى أن أبا مكنون النحوي لقي رجلاً من أصحابه فسأله :
ما حالُ ابنِك ؟
فقال : أخذته الحمى فطبخته طبخاً ورضخته رضخاً وفتخته فتخاً فتركته فرخا.
فقال أبو مكنون : وما حالُ امرأتِهِ التي كانت تشارُّهُ وتمارُّهُ وتزارُّهُ وتهارُّه ؟؟
فقال الرجل : طلقها فتزوجت غيره فحَظيَتْ وبَظيَتْ .
فقال أبو مكنون : وما بظيت ؟؟
قال الرجل : ضربٌ من الغريب لم يبلغك
فقال أبو مكنون : يا ابن أخي إذا بلغك شيء من الغريب فاكتمه عن عمك كما تكتم السنور خرأها !!
ويروى عن أبي مكنون النحوي هذا أنه دعا في صلاة الاستسقاء قائلاً : اللهم اسقنا غيثاً مريئاً مريعاً مسحنفراً مثعنجراً مجلجلاً سَحّاً سفوحاً طبقاً غدقاً نافعاً لعامّتنا وغير ضار لخاصتنا ، فصاح أعرابي من بين المصلين : يا خليفة نوح ، هذا هو الطوفان ورب الكعبة ، دعني حتى آوي الى جبل يعصمني من الماء .
وإن كانت هذه الأمثلة تروى على سبيل الدعابة اللغوية إلا أنها تدل على مدى اهتمام أسلافنا باللغة وحرصهم على البلاغة والفصاحة .
ولما كانت اللغة هي الهوية التي تربطنا بماضينا وتعبر عن حضارتنا ووجودنا فإننا في هذا العصر قد بلغ بنا الانحطاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي حداً وصل بنا الى الصميم ألا وهو اللغة ، فإن في ضياعها ضياعاً لآخر قلعة من قلاع وجودنا كعرب وكمسلمين وكشيعة ننتمي لأمير البلاغة والبيان علي ابن ابي طالب (عليه السلام ) ولنا كتابٌٌ عظيم بين ظهرانينا .
منقول
**************************************************