قصة من التراث رائعة
البشعة في اللغة مشتقة من بشع بتشديد الشين وفتحها، يقال: بشع يبشعا تبشيعا، وهذا بشع بفتح الباء وكسر الشين، وهذه بشعة، والأبشع والبشعاء ، أي القبيح والقبيحة، إذن بشع قبح. وإصطلاحا هي التعزير أو التجريم، أي تلبيس الشخص تهمة، ثم إزالتها عنه بالتبشيع، والبشعة على عادات العرب الموروثة، كما في القصة التالية من مداولات للبشعة، لجريمة وقعت، ولم تعرف الأطراف المشاركة بالجريمة على الرغم من التبشيع، ففي عام 1924م، كانت عشائر عرب الصقر تضرب منازلها في فصل الشتاء وأوائل الربيع فيما يعرف بأسم وادي الفارعة، كان فلاح الحمد ، من أبرز رجالات الصقر، لا يتجاوز عمره 40 عاما، يرتحل مع العشائر من أقاربه، حيث الماء والكلأ، من سهول عكا وحيفا والناصرة الى مرج بن عامر صيفا الى بيسان في الخريف والربيع الى وادي الفارعة شمال البحر الميت في الشتاء.
لم يجاور أقاربه في ترحاله، فيحط على الأطراف، مصطحبا ثلة من عبيده الأقوياء، يحطون حيث يحط، وينامون حيث ينام، يأكل مما يأكلون، يتألم لألمهم، ويتألمون لألمه، فهم أخوانه، هكذا يسمونهم. في ليلة ظلماء، يجلس فلاح الحمد يتسامر مع إخوانه، وبعض جيرانه من أفخاذ عشيرته، على ضوء النار، يشعلون الحطب، يحتسون القهوة العربية، ويتجاذبون أطراف الحديث، بندقيته تحت طرف فرشته، شبريته على وسطه، في ظلمة هذا الليل الحالك، وسكينته الموحشة، ووهرة الجبال الراسخة، والوديان السحيقة، ونجوم السماء المتلألئة، وقبل أن تطبق العين أجفانها، أطلت فوهة بندقية من فاهق رواق البيت، صوبت على سيد البيت، وقبل أن يتحرك اللسان، إنطلقت الرصاصة، لتحط في قلب فلاح الحمد، وغاص في دمائه، ولفظ أنفاسه.
إمتطى الصائح صهوة جواده، طفق ينادي العربان، بنداء الويل والمصيبة: ويل.. آخ ويل...ويل آخ ويل، ففزعوا على عواتق خيولهم، نساء تولول، ونساء تنوح، ورجال يقصون الأثر، وآخرون مشغولون بالجثة، أناس تضرب الكف بالكف، واحسرتاه... واخسارتاه. القاتل لفه الليل بظلامه، وأخفى أطراف الجريمة، وتكتم عليها، فمن قائل: القاتل رجل واحد، وقائل: القاتل رجلان، وقائل القاتل: ثلاثة، وقالوا: هواة ليل (ضربة ليل)، ووريت الجثة التراب، هناك في مقابر أبي عبيدة عامر بن الجراح، في غور الأردن، عاد الرجال لتقبل العزاء، أبناء عمومته لم يغمض لهم جفن، تخالهم مجانين، يعضون أطرافهم حسرة عليه، وندامة على إختفاء القاتل، الكل يبحث، ليل نهار، لكن دون أثر، دارت الشبهات حول زيد، وعبيد، والعشيرة الفلانية، والعشيرة العلانية، واستقروا على تلبيس التهمة الى عشيرة أخرى من عشائر الصقر، هي عشيرة الدخيل، التي لاذت بوجه عشيرة ثالثة من الصقر هي الملاك، وجاء أهل القتيل بأدلة واهية، وبدأ التحرش بتلك العشيرة، وكادت تشتعل نار الفتنة، لتأكل عشرات الرجال والنساء، وكل ما تملك العشيرتان من أموال، تداعت عشائر الصقر الأخرى لإخماد الفتنة، واللجوء الى التحكيم. فأي تحكيم هذا؟ فلا عهد لهم بالحكومات، ولم يعرضوا قضية على حكومة مذ جبلوا، فمحاكمهم منهم، وقضاتهم فيما بينهم، يلجأ اليها المتنازعون، فهذا ما توارثوه جيلا إثر جيل، أحكامها نافذة، قضاتها معتبرون، لا يعترض على حكمهم متهم.
قضية فلاح الحمد تختلف مرافعاتها، عن القضايا المعتادة، فلا دليل على المتهم، ولا بينة لدى المدعي، هكذا زعم المدعي، وهم عشيرة القروط، وهكذا إستجاب المدعى عليه، وهم عشيرة الدخيل، فطالب القروط بتطبيق حكم معين، وقبل المدعى عليهم، طالبوا بتبشيع المتهمين وعددهم ثلاثة، وكما يقول العرب: آخر الداء الكي، فإن آخر الحكم البشعة، وهي الكي بحد ذاته، والكي بطرف يد المحماس، المحمية على النار الى درجة الإحمرار، يطلب القاضي من المتهم أن يمد لسانه فيلذعه على رأس اللسان، فإذا تركت النار أثرا للكي على اللسان يسند الجرم اليه، وإذا لم يترك الكي أي أثر على رأس اللسان يعلن القاضي برائته، نعم كان للقروط ما طلبوا، وحكمت المحكمة ببراءة المتهمين، هناك في مضارب الأمير عبدالله بن الشريف حسين بن علي، الذي حطت رحاله على أرض الشام، منذ بضع سنوات، والقاضي هو إبن زهير من عرب بني صخر طرف محايد، ذو باع طويل في قضايا الدم، وساد الوئام الأقارب، وغاب فلاح الحمد الى الأبد، والليل لف الجاني الى الأزل.
الهوامش:
وادي الفارعة: هو الوادي المنحدر من جبال نابلس الشمالية، وقد سمي الوادي بهذا الإسم نسبة على عين الماء الغزيرة في أعلاه، والتي سميت بهذا الإسم بعد أن شربت منها وارتوت الفارعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف الثقفي.
مقابر ابي عبيدة عامر بن الجراح: تقع في سهول الغور الأوسط على مسافة بضعة كيلومترات من سيل الزرقاء، حيث ضريح الصحابي الجليل أبو عبيدة عامر بن الجراح وصحبه الذين ماتوا بوباء الطاعون.
**************************************************