الحضارة السومرية
بالرغم من الدور القيادي للسومريين فانه لا ينبغي التقليل من الدور التاريخي للاقوام الاخرى. في الوقت الذي يمكن تقديم تواريخ تقريبية عن فترة ما قبل التاريخ، تتطلب الفترات التاريخية اطارا ثابتا للتسلسل الزمني والذي وللاسف ولحد الان لم يتم تثبيته للنصف الاول من الالفية الثالثة ق م.
ان اسس التسلسل الزمني مابعد 1450 ق م قد تم تامينها ببيانات تتضمن قائمة باسماء ملوك الآشوريين والبابليين، والتي غالبا مايمكن تدقيقها عن طريق الرقم المؤرخة والقائمة الاشورية للاشخاص المؤسسين ( الموظفين الذين يعينون سنويا والذين تشير اسماؤهم الى سنة معينة). على اية حال فانه ليس من المؤكد كم من الوقت فصل بين منتصف القرن 15 ق م عن نهاية سلالة بابل الاولى، والتي ارخت بعدة اشكال 1594 ق م (وسط) 1530 ق م (قصير) او 1730 ق م (تسلسل طويل). وكحل وسط فقد استخدم هنا التسلسل الوسط .العديد من السلالات المتسلسلة تتداخل منذ 1594 ق م لتصل الى بداية سلالة اور الثالثة، حوالي 2112 ق م. ومن هذه النقطة الى بداية السلالة الاكدية ( 2334 ق م) فالفترة يمكن ان تحسب ضمن 40 الى 50 سنة من خلال حكام لكش والتقليد غير المؤكد بخصوص نواب الملك كوتيان. هناك احتمالية اختلاف من 70 الى 80 سنة مع "أور نانشه" الملك الاول في سلالة لكش (2520 ق م)، والتواريخ السابقة ما هي الا محض تخمين: يعتمدون على عوامل ذات صلة محدودة، مثل تخمين مستويات الاحتلال او التدمير، ومستوى التطور في النص ( علم دراسة الكتابات القديمة)، شخوص المنحوتات، والفخاريات، والاختام الاسطوانية، وعلاقتها بالمواقع المختلفة.
وباختصار، فان التسلسل الزمني للنصف الاول من الالف الثالث هو محض تخمين الكتاب انفسهم. ان الكاربون – 14 كشف عن تواريخ تعتبر حاليا قليلة وابعد من ان تعطى وزنا كبيرا. وعليه فينبغي قبول التحول من الالفية الرابعة الى الثالثة بتحفض وحذر، حيث ان ازدهار حضارة اوروك القديمة واختراع الكتابة.
لقد قام السومريون في اوروك ولربما في مدن اخرى بذات الحجم بالعيش حياة المدن والتي يمكن تخيلها كالاتي: معابد ومناطق سكنية؛ زراعة مكثفة، تربية المواشي، وصيد الاسماك، وزراعة اشجار النخيل مشكلين بذلك اعمدة الاقتصاد الاربعة الرئيسة؛ وصناعات عالية التخصص تمثلت بالنحت ونقش الاختام والتعدين والنجارة وبناء السفن وصناعة الفخار وعمال القصب والاقمشة. كان البعض من الشعب يمون بالارزاق من قبل نقطة مركزية للتوزيع، والتي اغاثت الناس المحتاجين بتامين احتياجاتهم من المواد الغذائية الرئيسة مقابل عملهم يوميا لمعضم ايام السنة. وقد ادامت المدينة ارتباط تجاري فعال مع الاراضي الاجنبية.
ان اسلوب حياة المدينة المنظم تمت معرفته من خلال الرقم المكتوبة. ان اقدم الرقم تحوي على شخوص باعداد وقياسات حسب المواضيع اضافة الى اسماء الاشخاص واحيانا ولربما المهن. ان هذا يظهر الاصول العملية البحتة للكتابة في بلاد مابين النهرين: لم تبدأ كوسيلة للسحر او وسيلة للحاكم لتسجيل مفاخره ومنجزاته، مثلا، ولكن كوسيلة مساعدة للذاكرة لادارة كانت دائمة التوسع في نطاق عملياتها. انه من الصعب الولوج في اقدم الامثلة على الكتابة بسبب صيغها المقتضبةالتي تقتضي معرفة بالمضمون وعدم المعرفة الكاملة بلفظ الكلمات لحد الان. اضافة الى ان العديد من العلامات القديمة كانت قد انمحت بعد فترة قصيرة من الاستعمال ولا يمكن متابعتها ضمن لغات فترات لاحقة لذا فلا يمكن التعرف عليها.
احد اهم الاسئلة التي ينبغي معرفة الاجابة عنها عند بحث "التنظيم" و " حياة المدينة" هو " البناء الاجتماعي" وشكل الحكومة؛ وعلى كل فيمكن الاجابة عليه بصعوبة وان استخدام الدلائل من مراحل لاحقة يحمل معه خطورة المفارقة التاريخية. ان الكلمة السومرية للحاكم، والجودة هي "لوكال" والتي تعني حسب جذر الكلمات " الشخص الكبير". ان اول ظهور لهذه الكلمة هو من زمن "كيش" حوالي 2700 ق م ، مادام ان الظهور الاقدم منذ "اوروك" غير اكيد حيث يجوز ان القصد منها هو اسم شخص:" المسيو ليغراند". كان اللقب الخاص للحاكم في اوروك هو " إن" . وعرفت هذه الكلمة في حقب لاحقة، ووجدت ضمن اسماء مقدسة مثل "إنليل" و " إنكي" والتي غلب عليها المفهوم الديني والتي تترجم الى السعي الى مركز افضل، مثل كاهن او كاهنة. ان لفظة " إن" كلقب للحاكم، قد جاء ذكرها في الملاحم القليدية للسومريين (كلكامش هو إن الكولاب" منطقة في اوروك) وخاصة في اسماء الاشخاص.
غالبا ما يسأل ان كان حاكم اوروك يمثل بالاعمال الفنية. رجل يطعم خروفا باغصان مزهرة، او شخصية بارزة في نقوش الاختام، قد تمثل الحاكم او الكاهن حسب منزلته كاداري او حامي الجماهير. ونفس السؤال قد يطرح عن رجل منقوشة صورته على عمود رخام يصوب سهمه على اسد. ان هذه الاسئلة مجرد تخمينات، وعلى اية حال، وحتى ان كان " حامي الجماهير" هو نفسه "إن" فلا يوجد اساس لرؤية شخص ذي طابع ديني في الحاكم .
الادب والمصادر التاريخية الاخرى
ان الصورة التي يعكسها الموروث الادبي لبلاد مابين النهرين واضحة جدا ولكن ليست بالضرورة تعبر عن الارتباط التاريخي. كانت قائمة ملوك السومريين على مر الزمان مركزا للاهتمام. ان هذا هو انشاء ادبي، يعود الى ايام بابل الاولى والذي يصف الملوكية ( نام لوكال بالسومرية) في بلاد مابين النهرين من العصور البدائية الى نهاية سلالة إيسن الاولى. وحسب النظرية – او الفكرة – لهذا العمل، كان هناك رسميا ملوكية واحدة في بلاد مابين النهرين، والتي كانت منوطة بمدينة معينة واحدة في زمن معين؛ وعليه فان تغير السلالات قد جلب معه تغيرا في كرسي الملكية:
كيش –اوروك – اور – اوان – كيش – همازي – اوروك – اور – اداب – ماري – كيش – اكشاك – كيش – اوروك- اكد – اوروك – غوتيانس – اوروك – اور – إيسن.
ان قائمة الملوك تعطينا حسب تسلسلها عدة سلالات والتي تعرف اليوم بانها حكمت في وقت واحد. انها وسيلة مفيدة للتواتر الزمني والتاريخ، ولكن اما بالنسبة لسنوات حكم ملك معين، فانها تفقد قيمتها بالنسبة للزمن الذي يسبق سلاللة اكد، حيث ان هنا تكون المدة التي حكم بها كل ملك او حاكم اكثر من 100 سنة واحيانا عدة مئات من السنين. اعتمدت مجموعة واحدة من قوائم الملوك قصة الطوفان التقليدية السومرية، والتي استنادا لها فان كيش كان المقعد الملكي الاول بعد الطوفان، في حين ان خمس سلالات للملوك البدائيين حكموا قبل الطوفان في اريدو، باد-تبيرا، لاراك، سيبار ، و شروباك. يدعى ان كل هؤلاء الملوك قد حكموا فترات من مضاعفات ال 3600 سنة ( اعظمها 64800 او نسبة الى احدى المصادر 72000 سنة).
ان اثار قائمة ملوك السومريين لا زال لها صدى في بيروسوس. من المفيد ايضا ملاحظة ما لا تذكره قائمة الملوك السومريين. ان القائمة تفتقر الى الاشارة الى اي سلالة مهمة كسلالة لكش الاولى ( من الملك اور نانشي الى اوروك أكينا) ويبدو انها لا تذكر شئ عن ازدهار اوروك القديمة في بداية الالف الثالث ق م. اضافة الى المواصلة السلمية التي يعكسها الفن والكتابة، فالفن يعطي ايضا معلومات اولية عن تماس العنف: الاختام الاسطوانية من مستوى اوروك الرابع يصور رجال مقيدون مستلقين او جالسين القرفصاء على الارض، يجلدون بالعصي او تساء معاملتهم من قبل اشخاص واقفين. قد تمثل اعدام اسرى حرب. لا يعرف من اين جاء هؤلاء الاسرى او من اية حرب اسروا او منذ متى تم خوض الحروب المنظمة. على اية حال فان هذا يعطينا اول دليل عن الحروب ، على الرغم من كونه غير مباشر، التي كانت من السمات المميزة لتاريخ بلاد مابين النهرين.
كما يحكم انسان انسانا اخر، او تحكم قوى عليا الانسان فنجد من الصعب الحكم عن اول صيغة معروفة للاديان او العبادات واسمائها دون المغامرة في الوقوع بمفارقة تاريخية. باستثناء رموز ماقبل التاريخ والتي لا تعطي دليلا يمكن من خلاله القرار ان كانت الالهه يمثلها بشر او مجسمات الهية بصور بشرية، ان اول اقرار برموز معينة والتي اصبحت بعدئذ الرمز المسماري لاسماء الالهه : عمود البوابة بمباخر تمثل انانا الهة الحب والحرب والعمود بحلقة لاله القمر نانا. هناك مشهد على ختم اسطواني – ( ضريح برمز انانا و رجل في زورق) – قد يكون توضيحا مختصرا لموكب الالهة او سفرة عبادة بسفينة. ان الصلة الثابتة ل" عمود الباب بالمباخر" مع الخروف والعمود ذو الحلقة بالبقر قد يعكس منطقة المسؤولية لكل عبادة. ان العالم بالاثار السومرية " ثوركيلد جاكوبسن" يرى في الهيكل المقدس انعكاس لاقتصاديات مختلفة و اساليب حياة في بلاد مابين النهرين القديمة: ان صيادي الاسماك وساكني الاهوار، وفلاحي بساتين النخيل، وقطعان الابقار والرعاة والمزارعين كل له مجموعاته الخاصة من الالهه.
يمكن معرفة كلا من اللغات السومرية وغير السومرية من خلال الاسماء المقدسة واسماء الاماكن. مادام لفظ الاسم صار معروفا منذ عام 2000 ق م او ما بعد ذلك فقط، فان الاستنتاجات حول الصلة اللغوية لتلك الاسماء ليس بالامر السهل. فالعديد من الاسماء، مثلا، اعيدت ترجمتها الى السومرية من قبل دارسين معروفين لاصل الكلمات. انه من المهم فصل التراكيب السوبرية ( ذات العلاقة بحران)، والتي قد تكون اهميتها اعظم مما يفترض. في مدينة "حاع" في جنوب بلاد مابين النهرين ( الترجمة التي لا لبس بها للعلامات) هناك شرح لفظ "شوباري" و تعويذة لا سومرية معروفة في لغة "حاع" والتي وجد انها سوبرية الاصل.
كان في بلاد مابين النهرين وباستمرار ناطقون باللغات السامية. من السهل اكتشاف هذه الظاهرة في بلاد مابين النهرين القديمة، اما اذا كان الناس قد يدأوا بالمساهمة في حضارة المدينة في الالف الرابع ق م او فقط في الالف الثالث كما هو معروف. منذ 4000 سنة مضت كان بعض الساميين ( الاموريين، والكنعانيين، والآراميين والعرب) بدوا رحلا يجوبون حافات البلاد العربية او الهلال الخصيب، والبعض استقر واستوطن؛ ويمكن ملاحظةالانتقال الى حياة الاستقرار من خلال ايقاع ثابت لكنه غير متساو. وعليه فهناك ارضية جيدة لافتراض ان الاكديين (واقوام اخرى سامية سبقت الاكديين غير معروفين بالاسم) كانوا يعيشون ايضا حياة البداوة بدرجة اكبر او اقل. على كل فقد يكونون رعاة دجنوا الغنم والماعز، والتي تتطلب تغيير المرعى حسب الوقت من السنة ولا يمكنهم المكوث اكثر من مسيرة يوم واحد بعيدا عن مصادر المياه. ان حياة البدو التقليدية ظهرت بتدجين الجمال في فترة الانتقال من الالف الثاني الى الالف الاول ق م.
ان السؤال الذي يبرز هو كم كانت سرعة انتشار الكتابة ومن هم الاقوام الذين استخدموها في حوالي 3000 ق م او بعد ذلك بقليل. في كيش، شمال بابل، حوالي 120 ميلا شمال غرب اوروك، عثر على رقم صخري بنفس مجموعة العلامات القديمة التي عثر عليها في اوروك ذاتها. ان هذه الحقيقة توضح انه كان هناك تماس ثقافي بين شمال وجنوب دولة بابل. ان انتشار الكتابة بشكل غير محور يفترض وجود مدارس في العديد من المدن والتي عملت على نفس المبادئ والتصقت ببعضها بنفس الذخيرة من العلامات المعترف بها. ان من الخطأ الافتراض بان اللغة السومرية كانت تنطق في كل المنطقة التي تبنت الكتابة. اضافة الى ان الخط المسماري للغات غير سومرية كان موجودا منذ القرن السابع والعشرين ق م.
اول الشخصيات التاريخية
لا يمكن تثبيت الاحداث السياسية في بلاد مابين النهرين بعد ازدهار الحضارة القديمة لاوروك بدقة. لم تظهر اول شخصية تاريخية قبل 2700 ق م – تاريخيا لان اسمه، إنميبارغيسي ( ميباراغيسي) كان قد حفظ في التراث التالي. يفترض ، على الرغم من عدم وجود القدرة على تمثيل الظروف نصا، وجود نهاية مبتورة للثقافة العالية لمستوى اوروك الرابع. وسبب هذا الافتراض هو وجود توقف ملحوظ في كل من التراث الفني والمعماري: طابع مختلف وجديد تماما من الاختام الاسطوانية، والمعابد الكبيرة ( ان كانت بالاساس تعتبرمعابد) قد اخليت، التقليل من الاهتمام لمستمر في المواقع الدينية، و بني في المواقع الجديدة اضرحة على ممرات والتي كانت تمثل الطابق الاسفل لزقورة انانا التي تلتها. عندما تطورت الكتابة عضويا وكانت تتحسن باستمرار باختراعات ووسائل تطوير فان الافتراض بان تغيرا ثوريا قد طرأ على السكان يكون افتراضا متعجلا.
اصبح جنوب بلاد مابين النهرين خلال ربع او ثلث الفية بين اوروك المستوى الرابع و انمبراغيسي، مرصعا باشكال معقدة من المدن، اصبح الكثير منها مركزا لدول مستقلة صغيرة، من خلال الحكم على الموقف من حوالي منصف الالفية. كان مركز هذه المدن هو المعبد، واحيانا كان يحاط بجدار على هيئة حدود بيضوية ( ومنه جاء مصطلح المعبد البيضوي)؛ ويمكن للبنايات غير الدينية الاخرى، مثل القصور التي كانت سكنا للحكام ان تكون مركزا للمدينة.
يعتبر ملك كيش "انميبراغيسي" اقدم حاكم في بلاد مابين النهرين، وتتوفر عنه كتابات موثقة. هي شضايا مزهرية، عثر على احداها في المعبد البيضوي لخفاجه ( الخفاجي). لقد درج اسم "انميبراغيسي" ماقبل الاخير في قائمة الملوك لسلالة كيش الاولى؛ القصيدة السومرية "كلكامش و اغا كيش" يصف حصار اوروك من قبل اغا، ابن انميبراغيسي. كان لاكتشاف الكتابات الاصلية على المزهرية دلالات مهمة لانها مكنت الدارسين بقدر اكبر من التبرير من السؤال فيما اذا كان كلكامش البطل الرمز لبلاد مابين النهرين والذي دخل الادب العالمي ان كان حقا شخصية تاريخية. ان التوافق الزمني غير المباشر ، وعلى الرغم من احتمالية انه حتى في العصور القديمة البعيدة عرفوا " نينوس" و "سميراميس" رموزا دارت حولها وتلاشت بسرعة ذاكرة التاريخ عن كل الاعمال والمغامرات. ولذا فان الاعتقاد التاريخي في بداية الالف الثاني بان كلكامش هو باني جدار المدينة القديمة اوروك، قد لا يكون حقيقة. ان ارشيف قصر "شوروباك" ( تل فرح الحديثة ، 125 ميلا الى الجنوب الشرقي من بغداد) والتي يرجع تاريخها على الاغلب الى بعيد 2600 تحوي على قائمة طويلة من الالهة، بضمنهم كلكامش وابوه لوكال باندا. من ناحية اخرى فان التاريخ الاكثر حداثة يرى كلكامش قاضي العالم السفلي. على اية حال فقد يكون هناك نزاع مسلح بين مدينتين من بلاد مابين النهرين مثل كيش واوروك ولم يكن هذا بالامر الغريب في بلد تستهلك طاقاته من خلال التدخل من 2500 الى 1500 ق م ، بصدامات بين العديد من القوى الانفصالية. على كل فان الامبراطوريات العظمى كانت شذوذا عن القاعدة.
انبثاق دول المدن
لابد وان كيش قد لعبت دورا رئيسا منذ البداية. فحكام جنوبي بلاد بابل بعد 2500 مثل ميسانيبادا حاكم اور و ايناتوم حاكم لكش، غالبا ماكانوا يلقبون انفسهم بملك كيش عند ادعاء الاستقلال عن بلاد بابل الشمالية. ان هذا الراي لا يتفق مع التواريخ الحديثة التي تظهر كيش امبراطورية قديمة. الاكثر احتمالا ان ممثلي الشمال كانوا يدعون نفس المنطقة والمتضمنة جغرافيا ايضا الارض التي سميت فيما بعد بارض اكد. بالرغم من ان الادلة المادية للكتابات المنقوشة اصبحت اغنى واكثر من خلال التوزيع الجغرافي والتسلسل الزمني في القرن 27 وازداد في القرن 26 ق م ، لازال من المستحيل ايجاد مفتاح لحساب تاريخي معقول، وان التاريخ لا يمكن كتابته منفردا على اساس الاكتشافات الاثرية القديمة. مالم يجري توضيحها بوثائق مكتوبة فان مثل هذه الاكتشافات تحوي على العديد من الالغاز بدلا من ان تعطينا الحلول. ان هذا ينطبق حتى على اكتشاف مذهل مثل القبور الملكية لاور مع قرابينهم ( مئات من القرابين) من الموالين الذين يتبعون ملوكهم وملكاتهم الى القبور، ناهيك عن المواعيد المحكمة للدفن مع موجودات الاضرحة. انه يمكن كتابة التاريخ باطار معين فقط منذ حوالي 2520 ولغاية بداية سلالة اكد، بمساعدة تقارير دولة المدينة للكش وعاصمتها جيرسو وعلاقاتها بجارتها ومنافستها، "امة". ان المصادر لهذه، هي من ناحية، الادلة المادية للكتابات المنقوشة والتي تعود الى الحكام التسعة، تخبرنا عن البنايات التي انشاؤوها، وعن قوانينهم وحروبهم، وفي حالة "اوروك اكينا"، عن الاجراءات الاجتماعية. ومن ناحية اخرى، هناك ارشيف من 1200 لاقم – ( التي نشرت لحد الان) – من معبد بابا، فان اهة المدينة جيرسو منذ عهد لاكولانادا و اوروك اكينا ( النصف الاول من القرن 24ق م).
لاجيال عديدة، كانت لكش و امة تناقشان امتلاك وزراعة وحق الانتفاع بالمنطقة الخصبة ل " جويدينا". وبدءا فانه من جيلين قبل اورنانشي، ميسيلم ( وهو ملك آخر لكيش) قد تدخل كحكم ومن المحتمل كحاكم عام في فرض على الدولتين خط الحدود المار بينهما، ولكن هذا لم يدم طويلا. بعد صراع طويل، اينانوتم اجبر حاكم امة على اداء قسم ملزم امام الاله الستة بالامتناع عن عبور الحدود القديمة، السدة. ان النص الذي يخص هذه الحادثة، مع الكثير من الادبيات الموسعة، منقوش على عمود النسور. ان هذه المعارك، والتي كانت تميل الى جانب معين، ثم الى الجانب الاخر، استمرت تحت حكم من اعقبوا اينانوتم، وخاصة انتيمينا ولغاية حكم اوروك اكينا حيث تم تدمير ارض لكش واماكنها المقدسة. اما العدو لوكال زاكيزي فقد قهر هو الاخر من قبل سرجون الاكدي.
يجب ان لا يوخذ العداء بين لكش و امة في معزل عن بقية المدن، والتي ايضا، كانت تعتبر عدوة في بعض الاوقات، والموقف العام يشكل تغيرا في التحالفات واحلاف قصيرة المدى بين المدن في الازمنة الاكثر حداثة. لقد تم ادراج كيش وامة وقبلها ماري على الفرات الاوسط معا في مناسبة معينة في زمن اينانوتم. لقد تم خوض تلك المعارك من قبل المشاة، بالرغم من التنويه عن العرباة الحربية التي كانت تجرها الحمر الوحشية.
ان حكام لكش لم يغفلوا ان يسموا انفسهم بال "أنسي" والتي تعني كترجمة تقريبية "حاكم المدينة" او "الامير". نادرا ماكانوا يطلقون على انفسهم لقب "لوكال" او "ملك"، اللقب الذي منح الى حكام "امة" حسب كتاباتهم. ومن المحتمل فان هذه كانت القاب محلية والتي حورت فيما بعد، لربما منذ عهد ملوك اكد، لتكون وراثية والتي اصبح فيها ال "لوكال" حاكما على "انسي".
دول المقاطعات
من الصعب وصف العلاقات الخارجية لدولة مثل لكش، والاصعب منه القاء الضوء غلى تركيبتها الداخلية. فلاول مرة، تشكلت دولة تحوي اكثر من مدينة مع المقاطعات المحيطة، لان حكاما اصحاب شخصيات عدائية استطاعوا ان يوسعوا تلك المقاطعة الى ان اصبحت لا تشمل جيرسو فحسب، العاصمة، والمدن مثل لكش و نينا (زورغول) ولكن العديد من المحلات الصغيرة وحتى ميناء بحري "جوابا". بالرغم من كل ذلك فانه ليس واضحا الى اي حد تكاملت المقاطعات المحتلة اداريا. في مناسبة واحدة استخدم اوروك اكينا معادلة " من حدود نينجيرسو ( وهو اله مدينة جيرسو) الى البحر،" واضعا في باله مسافة 125 ميلا. ليس من الحكمة الظن بان الدولة المنظمة في ذلك الوقت كانت تفوق هذا الحجم.
كانت نظرة الدارسين ولعدة سنوات مرتبطة بمفهوم السومريين لدولة المعبد، والتي كانت تستخدم لايصال فكرة نظام ان الحاكم، كممثل لالهه، يملك نظريا كل الاراضي، اما الاراضي المملوكة لافراد فكانت حالات نادرة وشاذة. ان مفهوم مدينة المعبد قد اشتق جزئيا من التفسير المفرط لمقطع من النص الاصلاحي لأوروك اكينا، بان الدول " في حقل انسي ( او زوجته والامير ولي العهد)، ان اله المدينة نينجيرسو ( او الهة المدينة بابا وابنهما المقدس)" قد اعتبروا مالكين، ومن ناحية اخرى، فان التصريحات في ارشيف معبد بابا في جيرسو والذي يعود تاريخه الى لوكالاندا و اوروك اكينا اعتبرت ممثلة بكاملها. هنا يوجد نظام ادارة، يديره زوج انسي او من قبل سانجو ( رئيس خدم المعبد) حيث ان اي عملية اقتصادية بضمنها التجارية تكون ذات علاقة مباشرة بالمعبد: الزراعة، البستنة، زراعة الاشجار تربية المواشي وتصنيع المنتجات الحيوانية، وصيد الاسماك، والدفع للبضائع من قبل العمال والمستخدمين.
ان الاستنتاج من هذا التوافق يؤكد خطورته حيث ان اراشيف معبد بابا يوفر معلومات فقط عن جزء من ادارة المعبد الكلية، اضافة الى محدودية المدة لذلك الجزء . من المفهوم ان القطاع الخاص والذي لم يكن بالطبع يخضع لسيطرة المعبد، نادرا ما ورد ذكره بهذه الاراشيف. ان وجود قطاع كهذا قد وثق بقوائم مبيعات وشراء الاراضي في الفترة التي سبقت سرجون الاكدي ومن مناطق متعددة. لقد ثبت في الكتابات السومرية والاكدية وجود الملكية الخاصة للاراضي او حسب راي بعض الدارسين الاراضي التي كانت تعود لعوائل ولم يجر تقسيمها. بالرغم من ان عدد كبير من السكان كانوا يجبرون على العمل للمعابد وياخذون معاشاتهم منها الا انه لا يعرف لحد الان ان كانت هذه الاعمال على مدار السنة.
من المحتمل سوف لن تتوفر ، ولسوء الحظ، صورة دقيقة واضحة وبالارقام عن البناء الديموغرافي للمدن السومرية. يفترض ان الحكومة كانت في المدن القديمة تستدعي اقسام من الشعب للقيام باعمال الخدمات العامة. ان انشاء البنايات البارزة او حفر قنوات عميقة وطويلة لا يمكن ان تتم الا من خلال مثل هذه التجنيد. ان تشغيل اعداد كبيرة من الاشخاص المهنيين والعبيد ليس له علاقة بهذا البحث. ان الدلائل على استخدام العبيد من الرجال نادر جدا في المرحلة التي سبقت سلالة اور الثالثة وحتى خلال سلالة اور الثالثة وفي حكم بلاد بابل القديمة، ان الرق لم يكن عاملا اقتصاديا. وحسب احدى الوثائق، ان معبد بابا استخدم 188 امراة ومعبد الالهة نانشه استخدم 180 وخاصة في طحن الحبوب وفي صناعة النسيج واستمرت هذه الحالة في الاوقات التالية. ولاجل الدقة ينبغي الاضافة بان مصطلح العبد والعبدة يستخدم هنا حسب المفهوم الذي ظهر بعد 2000 سنه والذي يصف الاشخاص الذين يباعون ويشترون والذين لم يكن بمقدورهم امتلاك ممتلكات شخصية من خلال عملهم. وهناك فرق بين العبيد اللاسرى ( اسرى الحروب والمخطوفين) والاخرين الذين يباعون.
في احدى المخطوطات، يتفاخرانتيمينا حاكم لكش بانه سمح لابناء اوروك لارسا، و بادتبيرا من العودة الى امهما وانه جعلهما بين ايادي اله او الهة المدينة. نقرا في ضوء تصريحات مشابهة لكنها اكثر تفصيلا وفي تواريخ لاحقة، هذه المعادلة المقتضبة التي تمثل اقدم دليل عن حقيقة ان الحاكم يتحمل احيانا لتعويض الظلم الاجتماعي بطريقة اصدار مراسيم. قد تشير تلك المراسيم الى تاجيل او الغاء ديون او الاعفاء من الخدمات العامة. وهناك جملة من المخطوطات لآخرحاكم من سلالة لكش الاولى، اوروك اكينا، كانت تعتبر لفترة طويلة مستند اساسي للاصلاح الاجتماعي في الالفية الثالثة، ان دلالة نص الاصلاح يمكن تبريرها جزئيا. عند القراءة بين السطور، من المحتمل ادراك وجود حالة من التوتر قد برزت بين القصر ( مقر اقامة الحاكم مع ملحقاته، الموظفون الاداريون، والممتلكات العقارية) ورجال الدين ( وهم خدم وكهنة المعابد) . فيما يبدو تحد لرغباته الشخصية، اوروك اكينا والذي يختلف عمليا عن كل من سبقه فان اسمه لا يدرج ضمن نسب السلالة وعليه فهناك شك في كونه مغتصبا للعرش، يدافع عن رجال الدين والذي يعتبر موثقهم مثيرا للدموع.
اذا ما توخينا الدقة في ترجمة المقطع الذي يخص حماية حقول انسي الى القدسية فانها ستفيد ان الموقف في المعبد كان تحسن وان اراضي القصر كانت قد خصصت للكهنة. مع هذه الاجراءات والتي تشكل سياسة القادم الجديد الذي اجبر على الاتكال على جهة معينة، يوجد آخرون من يستحقون المناصب بجدارة ل " اجراءات المتخذة للتخفيف عن الظلم الاجتماعي" – فعلى سبيل المثال السماح بالتاخر عن دفع الديون او الغائها واجراءات لمنع سيطرة المتنفذ اجتماعيا واقتصاديا من اجبار الادنى على بيع بيته، وفلوحماره وما شابه. اضافة الى ذلك فلقد كان هناك تعليمات التعرفة، مثل نفقات الزواج والدفن اضافة الى تعاليم دقيقة عن التموين الغذائي لعمال البساتين.
ان هذه الظروف، والموصوفة على اسس مصادر المواد من جيرسو، قد تكون هناك مثيلتها في مكان آخر، ومن المحتمل ايضا ان الاراشيف الاخرى، قد يعثر عليها في مدن اخرى سبقت سرجون الاكدي في جنوب بلاد مابين النهرين، قد تزودنا بمفاهيم تاريخية جديدة تماما. وعلى كل، فمن الحكمة التقدم بحذر مع التحليل والتقييم للمواد الموجودة بدلا من التعميم.
ان هذا هو افق بلاد مابين النهرين بمدة قصيرة قبل بروز الامبراطورية الاكدية. في ماري، كانت الكتابة قد ظهرت حوالي منتصف القرن 26 ق م،ومنذ ذلك الوقت فهذه المدينة الواقعة في الفرات الاوسط، تشكل مركزا مهما للحضارة المسمارية، وخاصة فيما يخص محتواها السامي. البا ( وربما مواقع اخرى في سوريا القديمة) قد استفادت من تاثير خطوط مدارس ماري. وامتدادا الى منطقة ديالى على الخليج الفارسي، فقد امتد نفوذ بلاد مابين النهرين الى ايران، حيث ورد ذكر سوسهمع الما ومدن اخرى، لايعرف مواقعها لحد الان. الى الغرب عرفت جبال امانوس وتحت حكم لوكال زاكيزي قد ورد ذكر البحر العالي (وبعبارة اخرى البحر المتوسط) لاول مرة. الى الشرق كتابات اورنانشه حاكم لكش الذي سمى جزيرة ديلمون ( حاليا البحرين)، والتي قد تكون حينئذ نقطة وسطية للتجارة مع ساحل عمان ومنطقة الاندس، ونصوص احدث عن ميكان وميلوها. لم تكن التجارة مع بلاد الاناضول وافغانستان جديدة في الالف الثالث، حتى وان لم تكن هذه المناطق مدرجة باسمائها. لقد كان واجب السلالة الاكدية لان توحد ضمن هذه الحدود مقاطعة لكش.
مصادر تأريخية - حضارة بلاد مابين النهرين
م ن
**************************************************