علم الدولة : الجنس : تاريخ التسجيل : 18/12/2009عدد المساهمات : 4793نقاط : 7325الجنسية : عراقيةالاوسمة :
موضوع: إنها حقاً بلد تشارلي الأربعاء 10 ديسمبر - 13:54
إنها حقاً بلد تشارلي
بمنتهى العمق والاحترافية، ومن دون الوقوع في أسر الصورة النمطية البليدة التي قدم بها ذلك النوع السينمائي المتعلق بأفلام المستعمر والسكان الأصليين، يستدرجنا الفيلم الأسترالي الرائع "بلد تشارلي" للمخرج "رولف دي هير"، الناطق بالإنجليزية إلى جانب "اليولنجو" لغة السكان الأصليين في شمال أستراليا، ليعرض لنا مشكلة غاية في الأهمية والخطورة ألا وهي مشكلة السكان الأصليين في أستراليا.
تلك المشكلة ستستغرق، على حد قول مخرج الفيلم، خمسمائة عام حتى تجد حلاً ناجعاً، نظراً لأن السكان الأصليين الزنوج لا يعيشون وفقاً للمعنى المتعارف عليه لكلمة مجتمع، وإنما كفرادى وجماعات متفرقة في أماكن مختلفة دونما حصر أو إحصاء من جانب الدولة.
وقد وفق "دي هير" أيما توفيق في أن يعرض لنا تلك المشكلة ويجعلنا نتفاعل معها وننشغل بها وبمثيلاتها أثناء وبعد الفيلم، وذلك من خلال تركيزه على شخصية واحدة فقط تنتمي للسكان الأصليين تدعى "تشارلي".
و"تشارلي" هذا، أدى الدور الممثل البارع " ديفيد جالبيليل"، متمسك بأرضه ووطنه الأم الذي يتذكره دوماً، ويُذكر الأستراليين البيض به وباغتصابه، تارة على نحو جاد وتارة أخرى بطريقة ساخرة، دون أن يخشى الشرطة أو حتى القاضي ودون أن يهاب السجن. فتشارلي جُبل على التمرد، وليس التمرد من جانبه لأجل التمرد وفقط، بل هو تمرد واع وذكي يرفض من خلاله الانصياع لقوانين الرجل الأبيض الذي جاء وفرضها عليه كما فرض نظامه الاجتماعي والغذائي والصحي إلى آخره. وقد تجلى هذا في المشهد الافتتاحي للفيلم، حيث نجد تشارلي ونفراً من الأصدقاء الأصليين يحتسون الخمور بسعادة وسرور تحت لافتة عريضة تجرم هذا الفعل وفقاً لأحكام القانون.
لكن، وبالرغم من هذا، يعيش تشارلي في سلام وهدوء مع النفس حتى مع البيض وضباط الشرطة، الذين يستفزهم فقط بين الحين والآخر بمنادتهم بالأوغاد البيض فيردون عليه بالوغد الأسود فيضحك ويمضي إلى حال سبيله. وحتى عندما تعدى الأمر ما هو أكثر من تلك المناوشات، بارتكب تشارلي لبعض المخالفات كالصيد ببندقية من دون ترخيص وسرقة سيارة الشرطة فقط من أجل الانتقال بها من مكان لآخر وبعدما صنع رمحاً ليصطاد به وتمت مصادرته أيضاً إلى آخر تلك المخالفات الهينة، عزم تشارلي أمره وترك لهم العراء، وتوغل في الغابات وراح يصطاد ويأكل ويعيش وينام بالعراء كيفما اتفق وفقًا لما عاش عليه أسلافه من قبل.
لكن مع قسوة الطبيعة وتدهور الحالة الصحية لتشارلي، جراء إفراطه في تدخين السجائر والحشيش، تلك السموم القاتلة التي جاءنا بها المستعمر الأبيض على حد قوله، اضطروا إلى نقله لإحدى المستشفيات لتلقي العلاج، لكنه وبعد فترة من تلقي العلاج، قال لطبيبه المعالج بسخرية جادة: "إنني أرغب في رؤية الطبيب"، وكان هذا إيذانًا بتركه المستشفى عنوة قبل استكمال علاجه، ليخرج لممارسة العيش على الطريقة التي يهواها، ومع التقائه بزمرة من السكان الأصليين يفرط في احتساء الخمور، ولأن اسمه ليس من بين أسماء المدرجين على قوائم الممنوعين يشتري الخمور بكميات كبيرة لرفاقه مبددًا كل ما معه حتى ينفد رصيده ولا يجد نقودًا بماكينة السحب.
وفي فعل عنف غير معتاد نراه لأول مرة، يهاجم تشارلي عربة الشرطة ويحطم زجاجها لأنها تطارد من معه من الرفاق والمرأة التي اتخذها لنفسه، وبالرغم من أن الشرطي يخبره أنه مدين له بالكثير وصبر عليه كثيراً لكنه لم يعد يسعه سوى معاملته المعاملة اللائقة. ومن ثم، يدخل تشارلي السجن. وتلك نقطة تحول كبيرة وفارقة في مسيرة تشارلي طوال الفيلم، الذي تبلغ مدته مائة دقيقة وثمانية، فمنذ سعادته بالعيش في الغابة ثم ازدياد وطأة المرض عليه، فنقله للمستشفى لممارسة حياة التسكع بالمدينة واحتساء الخمور بإفراط واتخاذ خليلة وانتهاء بفعل العنف، وتشارلي تحول بعض الشيء عما كان عليه. لكن السجن، تلك التجربة القاسية التي يخرج منها المرء مغايرًا لما كان عليه قبلها، يفت من عزيمة تشارلي، ويغير حتى من هيئته التي كان عليها طوال الفيلم فنجده حليق الشعر واللحية، فتخور همته ويستسلم للنمط الاجتماعي الذي يرغبه البيض، ويرضى بالطعام الذي كان يستنكفه، واحترام القانون وكل ما مطلوب منه من أجل التكيف.
لكننا نكتشف لاحقاً، أن تلك لم تكن سوى لحظة ضعف وقتية مر بها تشارلي. وبعد خروجه يرجع إلى النوم بالعراء وسط الحقول وفي الغابات، ولإطلاق لحيته وشاربه ويعيش هائمًا على وجه كغيره من الرفقاء مثلما كان في بداية الفيلم، في رفض نهائي من جانبه للتخلي عن موطنه وطريقته في العيش أو الوقوع في فخ صراع الانتماء إلى ثقافتين أو تغليب الثقافة الدخيلة على ثقافته ومعتقداته وموروثاته. ولذلك، يرضى في النهاية بعد رفض طويل أن يعلم الأطفال الرقص التراثي الذي هو من صميم الثقافة الموروثة للسكان الأصليين.
يمكننا بلا شك أن نجزم بأن ثالث تعاون بين عملاقي الإخراج والتمثيل في أستراليا، كان ناجحاً للغاية، بل وتفوق على ما جمعهما معاً من أفلام سابقة. إن العلاقة بين المخرج "رولف دي هير" والممثل" "ديفيد جالبيليل" تذكرنا بتلك العلاقة العميقة التي جمعت بين عملاقي الإخراج والتمثيل في ألمانيا، المخرج "فيرنر هيرتزوج" والممثل "كلاوس كينسكي"، فثمة قدر من التفاهم أو الكيمياء التي تربط بين الرجلين بشدة، فهما ليس مجرد مخرج وممثل عملا معاً من قبل، بل هما بالأساس شريكين في إبداع فكرة السيناريو، ثم المضي قدمًا في كتابته معاً. وهذا التعاون المذهل في تناغمه بين الرجلين، والذي كان ثمرته فيلم "بلد تشارلي"، لم يكن ليخرج على هذا النحو الجميل لولا أنه يجسد فعلا ما يشبه السيرة الذاتية للممثل "ديفيد جالبيليل"، الذي شارك المخرج كتابة السيناريو من السجن، لخرقه قانون احتساء الخمور.
أما "رولف دي هير" فقد وفق إلى حد بعيد في اختياره لأمكان تصوير السكان الأصليين في شمال أستراليا، وأبدع أيضًا في تصوير المشاهد الخارجية بالعراء وإظهار صعوبة وقسوة الطقس. والأقوى من كل هذا، نجاحه البالغ في المزج بين ممثله، صاحب الجسد الشديد النحول والهزال والعروق النافرة والوجه المفعم بالأسى والحزن، لم يجعلنا نمل من ظهوره طوال الفيلم وعدم مفارقته لأغلب الكادرات، وبين الطبيعة البكر والخلفيات العارية التي اختارها لتظهر في خلفية الكارد، الأمر الذي خلق صورة شديدة التميز والجمال من الناحية البصرية قاربت إلى حد كبير في جمالها، جمال وروعة أجمل اللوحات والبورتريهات التشكيلية.
ولد المخرج "رولف دي هير" عام 1951 في هولندا، وانتقل وهو صبي إلى استراليا، حيث شب وتعلم وتجنّس وأخرج العديد من الأفلام منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وأفلام المخرج "دي هير" في أغلبها من تلك النوعية التي تميل إلى التقشف وقلة التكلفة. وقد استطاع عبر أفلامه التسع أن يحقق بعض النجاحات لنفسه كمخرج وللسينما الاسترالية أيضاً، فقد اختيرت أربعة من أفلامه ضمن المسابقات الرسمية لمهرجان "كان"، وفاز أحدها بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في قسم "نظرة خاصة". كما شارك فيلمان له في المسابقة الرسمية لمهرجان "فينيسيا"، وحصل أحدها على جائز لجنة التحكيم الخاصة وكذلك جائزة لجنة النقاد. أما "بلد تشارلي" فقد فاز هذا العام 2014 بجائزة أحسن ممثل لـ "ديفيد جالبيليل" في قسم "نظرة خاصة" بمهرجان "كان". وهو الفيلم الذي اختارته استراليا ليمثلها في مسابقة "الأوسكار" لأحسن فيلم أجنبي لعام 2015.
وكان أول فيلم أخرجه "رولف دي هير" بعنوان "قصة نمر" عام 1984، وأعقبه "دينجو" عام 1991، وتلاه "بوبي الولد السيئ" عام 1993، ثم "الرجل العجوز الذي يقرأ قصص الحب" عام 2001، ثم "مقتف الأثر" عام 2002، ثم "مشروع ألكسندر" عام 2003، ثم "عشرة قوارب" عام 2006، و"دكتور بلونك" عام 2007، و"مات الملك!" عام 2012، وأخيرًا "بلد تشارلي" عام 2013.