ربما كانت المساهمة العظيمة التي منحها أندريه تاركوفسكي للسينما الحديثة هي هذا الصوت الداخلي، وذلك التأمل الروحي الذي كان يزرعه في الحياة التي يعرضها بعاطفية شديدة في أفلامه.
إننا نادراً ما نجد مخرجاً راغباً على هذا النحو في عرض أعمق أزماته الشخصية والسماح للجمهور ببحثها وتشريحها، وسماع لغة هي ذاتها نفس لغة حياة المخرج. كان تاركوفسكي يَسِمُ كل فيلم ينجزه بميسم اعتقاده الراسخ في أن كل إنسان هو كائن روحي، وقد تعمّد تاركوفسكي في أفلامه أن يُجبرنا على محاولة تأمل جوهر الوجود الإنساني، وشتان بين ما فعله وما تفعله السينما التجارية، التي تُنحّي جانبًا المطلب الإنساني للتنوير الروحي، وتنشد دائمًا ما هو أكثر مادية وإثارة.
نشأته ودراسته ولد أندريه تاركوفسكي في الرابع من أبريل عام 1932، وهو ابن الشاعر والمترجم الشهير "آرسيني تاركوفسكي" والممثلة الموهبة "ماريا إيفانوفنا". انفصل والداه مبكراً عقب ولادته، وتولت أمه تربيته وشقيقته حتى صارا يافعين. تلقى تعليمه كتلميذ في موسكو، وبالإضافة إلى دراسته المنتظمة، أخذ يدرس الموسيقا والرسم.
في عام 1951، التحق بمعهد موسكو للغات الشرقية لكنه عجز عن المواصلة بسبب المرض، فاتجه لدراسة اللغة العربية وبحث عن مستقبله كجيولوجي. ورغم ذلك، فإن ولعه بالسينما قاده في النهاية إلى أن يُقبل بمعهد الاتحاد السوفيتي للسينما (VGIK) ذي الشهرة الواسعة.
كان أستاذه ومعلمه بالمعهد، الذي تأثر به إلى حد كبير، هو المخرج الكبير "ميخائيل روم". وبمساعدة في كتابة السيناريو من صديقه "ميخالكوف كونشيلوفسكي"، قدَّم أول فيلمين قصيرين له، "لن تكون هناك إجازة اليوم" عام 1959 للتليفزيون السوفيتي، والثاني الذي كان بمثابة فيلم تخرج روائي قصير "وابور الزلط والكمان" عام 1960.
مسيرته المهنية عقب تخرجه في عام 1960، ذهب تاركوفسكي للعمل باستوديوهات "موسفيلم"، حيث عمل بموسكو كمساعد لنخبة من المخرجين. كان ظهوره الإخراجي الأول من خلال موسفيلم عام 1962 مع فيلم "طفولة إيفان"، المبني على قصة لـ "فلاديمير بوجومولوف". وقد نال هذا الفيلم جائزة "الأسد الذهبي" في مهرجان "فينيسيا" وحقق تقديراً وتميزاً على مستوى العالم.
وقد أثار نجاح الفيلم الكثير من الحرج الأيديولوجي في موسكو، الأمر الذي أدى بعد ذلك إلى محاولة قمع وإخماد فيلمه التالي "أندريه روبليف" عام 1966. وكان عملاً شاعرياً يعرض فترات متباعدة من حياة رسام الأيقونات الروسي العظيم "أندريه روبليف"، الذي عاش في القرن الخامس عشر. والفيلم المُقسّم لعدة فصول عبارة عن دراما مجازية وصراع روحاني عميق يعكس من خلال التورية محنة الكثيرين من الفنانين الروس.
العديد من النقاد اعتبروا الفيلم تحفة تاركوفسكي، لكن وبالرغم من أنه قد أُنجِز عام 1966، إلاَّ إن المشاكل مع الرقابة السوفيتية عطلت السماح بعرضه دولياً حتى عام 1973. على أية حال، سُمِح للفيلم بالمنافسة في مهرجان "كان" عام 1969 – ولم يكن ليحدث هذا لولا بيع الفيلم مُسبقًا لأحد المنتجين الفرنسيين – حيث جرت مشاهدته في اليوم الأخير بالمهرجان وفي توقيت ميت، لكي يُحرم الفيلم من الفوز بجائزة. ومع هذا حاز الفيلم جائزة "النقاد أو الفيبريسي"، ونال به مخرجه شهرة عالمية لافتة.
بعد ذلك وبالتحديد في عام 1975 حاز فيلمه "المرآة"، ذو القصة المفتوحة النهاية وتقنية الكاميرا الثورية والرؤية الحلمية الشاعرية غير المسبوقة، شعبية طاغية بين المثقفين الروس. تناول الفيلم قصة سيرية متعددة الطبقات حيث تتحرك الإطارت الزمنية بانسياب في سلاسة وسيولة للخلف والأمام، عاكسة أيضاً أحلام تاركوفسكي وتجربة أزمته الروحية كفنان أثناء حكم ستالين. والفيلم هو أول أفلام تاركوفسكي التي لجأ فيها بالكامل لاستخدام الألوان، مستغنيًا عن اللونين الأبيض والأسود.
والفيلم شبكة عنكبوتية حقيقية من الذكريات الذاتية البيوجرافية التي تتداخل وتتموج بإحكام في حبكة ذات تركيبة مبتكرة جذريًا. وقد اعتبر الكثيرون أن موضوع الفيلم مُكملاً لما طرحه المخرج من قبل في "طفولة إيفان"، لأنه بالمثل متابعة لطفولة صبي ينمو في فترة الحرب العالمية الثانية. وقد واجه الفيلم، مثلما حدث مع "روبليف"، مقاومة بيروقراطية ولم يصل لقاعات السينما بأوروبا الغربية حتى سنوات عديدة بعد الانتهاء منه.
برز فيلم "سولاريس" للعيان ونال شهرته في عام 1972، وقد بُني الفيلم على رواية خيال علمي كتبها "ستانيسواف ليم"، وتدور معظم أحداثه في الفضاء، لكنه بالطبع فضاء تاركوفسكي الصبغة ويختلف كلية عن فضاء أفلامنا المعاصرة. لدرجة أن الفيلم عندما أجريت له حديثًا إعادة إخراج هوليوودية، لم يفلح في أن يخرج على نحو هوليوودي صرف، ولا لامس حتى الفيلم الأصلي من قريب أو بعيد.
جاء العرض الأول لفيلم "ستالكر" في عام 1979، وكانت إعادة تصويره بميزانية أكثر تقشفًا حتمية، بعد حادثة المعمل التي دمرت النسخة الأولى من الفيلم. كان ستالكر آخر فيلم لتاركوفسكي يتم تنفيذه في روسيا، وقصته مأخوذة عن رواية "نزهة على جانب الطريق"، للأخوين "ستروجاتسكي". ويتضح بشكل خاص في هذا الفيلم إخلاص تاركوفسكي وإصراره على تناول موضوع الأزمة الروحية.
في الفيلم، كل شخصية تواجه بنفس القضية الموضوعية: الصدع بين علوم الطبيعة والإيمان بالدين، ومستقبل الإنسانية من منظور التهديد الذري. وفي النهاية، القدرة على الحفاظ على اتقاد الروح الإنسانية حية في كل مكان وزمان داخل كل شخصية. وقد وظف تاركوفسكي الألوان في هذا الفيلم على نحو مغاير بالمرة، وكانت الغلبة للون البني الداكن الحُمرة، وكان في هذا الأمر جرأة كبيرة من جانبه، فاجأت العين بما لم تعهده من قبل.
بعد تقديم "هاملت" على المسرح في موسكو، رحل تاركوفسكي إلى إيطاليا عام 1982، ليبدأ في تصوير فيلمه "الحنين" الذي كان من إنتاجه بتعاون سوفيتي إيطالي مشترك. وهذا الفيلم مبني على مخطوطة اشترك تاركوفسكي في كتابتها مع الشاعر والسيناريست الإيطالي الكبير "تونيو جويرا".
موضوع فيلم "الحنين"، يتعامل بنموذجية مع المحنة الروسية، محنة الفنان في الخارج، وقد أصابه الحنين إلى الوطن، مع العجز عن العيش سواء في هذا الوطن أو بعيدًا عنه. والأمر نفسه حدث لتاركوفسكي، وهو نفس قدره الذي سيُعانيه في السنوات التالية.
في خريف عام 1983، قدم تاركوفسكي للمسرح أوبرا "بوريس جودونوف" بنجاح عظيم في دار أوبرا "كوفنت جاردن" بلندن. وفي عام 1984، عجز تاركوفسكي عن الحصول على تصريح رسمي كي يبقى في الخارج. كان يعلم أن عليه العودة إلى موسكو، وأنه لن يُسمح له هناك مطلقًا بصنع أية أفلام، لذلك لجأ تاركوفسكي للبقاء في أوروبا الغربية. وبعد مرور عام ونصف العام، وبالتحديد في عام 1986 نُشِرَ كتابه "النحت في الزمن"، الذي قوبل بالمديح على نحو واسع وجرت ترجمته على نطاق واسع للغات عدة، منها العربية.
في عام 1986، أنهى تاركوفسكي فيلمه الأخير "القربان". وقد قام بتصويره في السويد مستعينًا بالعديد من معاوني المخرج السويدي الكبير "إنجمار برجمان". ويعتبر هذا الفيلم من التحف الخالدة في تاريخ السينما العالمية.
ويدور الفيلم حول مفكر يُقدم على قفزة إيمانية روحانية وسط تهديدات الإبادة النووية المُحدقة. ويشرع أخيرًا في بذل تضحية عظيمة تقوم بإنقاذ العالم في تصوّره. والقربان الذي يقدمه في سبيل هذا هو إحراق منزله، وبالطبع يكون جزاءه البشري مصحة الأمراض العقلية.
وقد فاز الفيلم بما لم يسبق له مثيل، أربع جوائز في "كان"، بما في ذلك جائزة "لجنة التحكيم لأفضل فيلم". وفي التاسع والعشرين من ديسمبر 1986 توفي أندريه بسبب سرطان الرئة في مصحة بباريس، ودُفِنَ في مقبرة المهاجرين الروس بمدينة "سان جنيف دوبوا"، في فرنسا. وقد صدر عن أندريه تاركسوفسكي، ولا يزال، مئات الكتب بجميع لغات العالم، تتناول أفلامه وفنه ومسيرته الفنية والحياتية وتنظيراته السينمائية من مختلف الجوانب.
نفي الرمزية عن أفلامه كثيراً ما طرحت أسئلة تتعلق بأفلام تاركوفسكي وأكثرها، هل يستعمل الرموز؟ وماذا يعني هذا الرمز أو ذاك؟ وإلام يرمز؟ يجب تاركوفسكي عن هذه الأسئلة، الباعثة دائمًا على الضجر والسأم بالنسبة له، قائلاً: بإمكاننا التعبير عن مشاعرنا فيما يتعلق بالعالم من حولنا إمَّا بالطرق الشاعرية أو بالمعاني الوصفية. أفضَّل التعبير عن نفسي بشكل مجازي. دعني أؤكد: بشكل مجازي، وليس رمزياً.
الرمز مُحَمل في حد ذاته بمعنى مُحدد بعينه، بصيغة عقلانية معينة أو معادلة فكرية بذاتها، بينما الاستعارة هي صورة. صورة تمتلك نفس المميزات أو الملامح الفارقة التي يتمتع بها العالم الذي تمثله الصورة. والصورة – في مقابل الرمز – غير محددة المعنى. ليس بإمكان المرء أن يتحدث عن العالم اللامتناهي باستخدام أدوات مُحدَّدة ومحدودة. بإمكاننا أن نحلل المعادلة أو الصيغة التي يتألف منها الرمز، بينما المجاز كائن متضمن في ذاته، الرمز أُحادي الدلالة. إنه يتحلل بمجرد محاولة لمسه.
الصورة لا يمكن أن تصبح رمزًا. حينما تتحول الصورة إلى رمز، يُصبح الفكر فقيراً أو مكبلاً، محاطًا بالجدران، إن صح التعبير. تصبح الصورة في هذه الحالة قابلة لفك شفرتها بالكامل، والصورة ليست كذلك. هذا إلى جانب أن الرمز ليس صورة. وبالرغم من أن الصورة لا يمكن شرحها، إلا أنها تُعبِّر عن الحقيقة لأقصى درجة ممكنة، و تبقى معانيها مجهولة.