. العبرة .. ليست بالأحجام ..
هل تصدق أن الأرض التي تقف عليها ويُخيّل إليك أنها ثابتة .. تنطلق في الفضاء بسرعة 65000 ميل في الساعة أي ألف ضعف سرعة أتوبيس سريع .. وأنها مجرد فرد بين أفراد مجموعة شمسية تدور كلها حول الشمس .
و أن المجموعة الشمسية كلها .. ما هي إلا واحدة من عدة مجموعات تؤلف فيما بينها مدينة كبيرة .. اسمها المجرة . تضم أكثر من مائة ألف ميون نجم تدور كما تدور عجلة هائلة حول نفسها في الفضاء .. و أن الشمس تقطع الدورة الواحدة حول هذه المجرة في ثلاثمائة مليون سنة علمًا بأنها تجري بسرعة 720000 ميل في الساعة أي عشرة آلاف ضعف سرعة الإكسبريس .
و أن المجرة ليست إلا واحدة من عدد عديد ن المدن النجمية كلها سابحة في الفضاء .. و عندنا من هذه المدن النجمية ميونا مدينة كل منها مثل المجرة حجمًا وضخامة .. و كل منها تبعد عن الأخرى بمسافات هائلة شاسعة تبلغ من بعدها أن رسالة لاسلكية مرسلة من مدينة نجمية إلى أخرى تحتاج إلى ستة ملايين من السنين لتصل ويصل ردها .. أي أن ردها يصل بعد انقضاء ستين ألف جيل من الأجيال البشرية .
و أقصى هذه المدن النجمية المرئية تبلغ من بعدها عنا ضوءها يستغرق 140 مليون سنة ضوئية ليصل إلينا ( الضوء يقطع في السنة الضوئية 6 مليون ميل ! ) .
و لقد أثبت أينشتين أن هذا الفضاء الكوني الهائل الذي تجري فيه كل هذه الكواكب والنجوم محدب .. و أن شكله منحن .. و أنه ينحني على نفسه و يتكور .. كما يتكور سطح الأرض .. و أنه أشبه شيء بفاقعة صابون هائلة .. في غشائها الرقيق، توجد جميع المدن النجمية سابحة سائحة في دورة مستمرة .
وأن هذه الفقاعة الكونية في حالة تمدد مستمر والنجوم تجري مبتعدة عنا في سرعات خيالية .. والضوء يستغرق في سياحته حول محيط هذا الفضاء الخرافي .. 50000 مليون سنة ليكمل دورة واحدة ، ولكن لأن تمدد الكون أسرع من سرعة الضوء، فإن شعاع الضوء الذي يخرج من المدن النجمية على أطراف الكون لا ولن يصل إلى عيوننا إطلاقًا .. ولن تحيط أبصارنا بأطراف المعمورة الكونية لأنها تتمدد بسرعة أكبر من أن يلحق بها الضوء وينقلها إلى حواسنا ، فنحن محكوم علينا بألا نراها .
وفي الحسابات الفلكية الأخيرة .. أن مجموعة مادة الكون التي أمكن رؤيتها أو استنتاجها تبلغ تقريبًا مقدار 11000 مليون مليون شمس ..
وفي الكون من النجوم ما يفوق حبات الرمال في الصحاى عددًا .. ومتوسط حجم كل نجم حوالي مليون مرة حجم الأرض .
وبعض هذه النجوم مثل نجم الجبار حجمه أكبر من الشمس 25 مليون مرة .
وليس معنى ذلك أن الكون مزدحم بالنجوم ، فالحقيقة أن الكون مخلخل جدًا وأغلبه فضاء وخلاء .. وثلاث نحلات تائهة في فضاء أوروبا أكثر ازدحامًا من النجوم في فضاء الكون .
والكون يفقد مادته باستمرار .. ويفنى ويبرد شيئًا فشيئًا ..
والشمس تفقد كل يوم 350000 مليون طن من وزنها يتحول إلى أشعة. وهي لهذا تضمر وتنطفيء رويدًا رويدًا .. وتضعف جاذبيتها على كواكبها وسياراتها ، فتنطلق هذه متباعدة عنا .
وفي الفضاء البعيد تبلغ درجة البرودة 480 درجة تحت الصفر .. الزمهرير .. وهي درجة تتجمد فيها كل السوائل وكل الغازات .
هل أصابك الدوار من تخيل هذه الأرقام ؟!
هل أصابك الهلع وأنت تتخيل مكانك في هذا التيه المخيف ! كذرة من اللاشيء فوق هباءة تافهة اسمها الكرة الأرضية بين ملايين ملايين من النجوم المَردة والسّدم العملاقة والمدن الفلكية الجبارة السابحة في فضاء غريب منحن كفقاعة حول العدم .
هل أغمضت عينيك وغبت عن وعيك وأنت تعد وتعد .. وتتصور هذه المتاهات العجيبة .
لقد نسيت ما هو أعجب من هذه الاحصائية كلها .
نسيت عقلك ..
إن عقلك .. يفوق كل هذه المتاهات .. لأنه وسعها .. و احتواها في مداركه .. عقلك ادرك الكون .. و تفوق على الكون لأنه أدرك نفسه أيضًا ..
والعبرة ليست بالأحجام .. فكل حاملات الوارثة ( الجينات ) في جميع المخلوقات البشرية منذ آدم إلى الآن لا تملأ فنجانًا .. ومع هذا، فهي على ضآلتها تحتوي على كل الخصائص التي أنتجت الآداب والفنون والحضارات بكل تصانيفها وحوادثها ..
وفيها مستقر المواهب والعبقريات والنبوءات والفاعليات البشرية بكل خيرها وشرها .
والذرة على صغرها فيها طاقة تهدم جبلًا .
وبالمثل لا اعتبار للأطوال الزمنية .. فربّ لحظة واحدة مليئة يحدث فيها من الأحداث ما تنوء به السنون الطوال ..
القيم لا تُقدّر بالموازين والمكاييل ولا تقاس بالاطوال .
ومستقر القيم في وجدان ذلك الإنسان الذي يُخيل إليك أنه شيء تافه حينما تقيسه إلى الكون .
معيار الحقيقة وصورتها في قلبه .
المثل العليا في خياله .
المستقبل رؤيا من رؤاه .
الحب والأمل والحرية أحلامه .
قدس الأقداس روحه .
اللانهاية جنبيه .
الهوة التي في داخله أعمق من الكون بما يحتويه من نجوم .. وأفلاك .. فهي هوة بلا قاع .ز وبلا سقف .. غير محددة ، غير متحيزة في مكان .. غير ممتدة في زمان .. و إنما هي ديمومة .. وحضور شعوري .. أشبه بالحضور الأبدي .
فهو يعيش في آنية دائمة .. يعيش في " الآن " دوامًا .. وينتقل من آن إلى آن .. وكأنه يمشي على وهم .. كل خدع الحواس .. كل صور العالم الفاني حوله لا تهمه .. كل التغييرات التي تكتنف العالم المادي لا تنطلي عليه .. فهو يستشعر نوعًا غامضًا من الاستمرار .
إحساسه بكيانه يُلازمه طوال الوقت ، فلا يكاد يشعر بأن هناك وقتًا إلا حينما ينظر مصادفة إلى ساعة معمصه .. أو حينما يفطن إلى انصرام النهار حوله .
إحساسه الداخلي يصور له ديمومة مستمرة .
وعيه الداخلي ينظر دوامًا إلى الأشياء وكأنه من معدن آخر غير معدنها .
معدن دائم لا يجري عليه حادث الزمان والفناء .. فهو موجود ليس له بداية .. وليس له نهاية .
إنه هنا .. كان دائمًا هنا ..
وفي الأحلام حينما تحمله أجنحة الوهم إلى الأماكن البعيدة التي لم يضع فيها قدمًا يخيل له أنه رآها من قبل .. وأنه كان هناك .
وفي لحظات الصفاء .. يحس كأنما يستشف الغيب .. ويحدس المستقبل وكأنما كان في ذلك المستقبل .. كأنه كان يضع قدمه هناك في الغيب المحجب .
كل حواجز الزمن تسقط في مجال رؤيته الروحية ، فيرى في لمحات الإلهام عبر هذه الحواجز .. وكأنما انفتحت له طاقة يطل منها على الحقيقة الأبدية .
ولكنها لمحات .. مجرد لمحات كومض البرق الخاطف .. لا يكاد يطل منها حتى تعود حجب الزمان والمكان، فتسدل كثيفة على عينيه ، وتشمله آلية الواقع وتلقى به إلى هوة التكرار وكأنه أصبح واحدًا من هذه الذرات المادية .. أو الأجرام الفلكية التي تدور في عماء في مجالاتها المرسومة بلا إرادة لتكرر دورة مقدرة لها ..
ولافكاك منها .. وتقعد به غلظة المادة .. وكأنها المرض يجعل كل شيء فيه ثقيلًا غليظًا .
هذا هو الإنسان العجيب الذي يجمع بين صفات المادة .. وبين صفات الروح..
هذا هو الإنسان المعجز اللغز الذي يثيرني أكثر مما تثيرني كل هذه الملايين من النجوم والأكوان المترامية .
هناك في حشوته الحية .. تحت عظام رأسه .. في جمجته وقلبه .. وفي نبضاته .. وفي جيف أعصابه .. يكون السر الأعظم .. الذي تتضاءل إلى جواره كل هذه الأكوان .. وكل هذه الذرات التي تدور في عماء الآلية والتكرار .