أحياناً أشعر بأن الغرور فضيلة . . وأحياناً أسأل نفسي . .
ما هي الغريزة التي دفعت فناني الموضة إلى ابتكار ألوان لامعة متألقة مشعّة . . مثل الساتان واللامية وموضات مثل القبعة العالية . . والياقة العالية . . والذيل المنفوش . . وغطاء الرأس ذي الريشة .. والشعر المستعار . .
ما هي الرغبة المستترة التي كانت في ذهن خوفو حينما طلب أن تكون له مقبرة أضخم من كل المقابر في الدنيا . . مقبرة سامقة تخرق السماء ولا يقوى عاد من عوادي الزمان على هدمها . . ما هي الغريزة الخفية التي رفعت الهرم على أضلاعه الأربعة . . وأقعدته ثلاثة آلاف سنة يخرج لسانه للنجوم . .
ما هي الدوافع الخفية التي خلقت لنا أنتيكخانة مليئة بالتحف والتماثيل . . ولماذا كان تمثال رمسيس الذي نراه كل يوم بميدان باب الحديد بهذا الطول الشامخ . . ولماذا كان تابوت توت عنخ آمون من الذهب وصحافه من الذهب وجدران غرفاته من الذهب . .
ولماذا يتخذ السوفيت نجماً مثل جاجارين أو تيتوف . . ليضعوه على رأس الإعلان اليومي عن انتصارات الفضاء . . وكلما انطلق صارخ دقت وراءه الطبول وانطلقت أحاديث صحفية وصور وبرقيات . . ووقف خروشوف يقول . . عندي قنبلة قوتها مائة طن ديناميت تمحو أوربا في لحظة . . ووقف أيزنهاور يقول . . ها . . ها . . نحن نتجسس عليكم من سنوات وأنتم لا تعلمون .
ما الذي جعل ناطحة السحاب ترتفع مائة طابق في السماء . . وأرض الله واسعة . . ويمكن بناء مائة فيلا وفيلا فوقها .
لا يمكن أن تكون الضرورة الفنية وحدها هي التي قررت هذه الرغبة في الشموخ . . لا أصدق . .
إن الرغبة في الشموخ ذاتها أكثر أصالة من هذا الإلهام المعماري إن الإنسان طاووس مزهو . . فيه غرور . . غرور خلّاق بناّء ومخرّب مدمّر في الوقت نفسه . .
وهو في محاولته تحقيق هذا الغرور وتأكيده في البحث عن تبرير ومنطق وحجّة معقولة يتوسل بها إلى أغراضه . . وهو حينما يجد هذه الحجة يكون فناناًَ . . ومخترعاً . . وفرعوناً . . وصاحب دين ورسالة . . وعلماً من أعلام الإنسانية . . وحينما لا يجده . . لا يجد مفراً من أن يكون سفاحاً يقتل ويذبح ويسرق ولا يجد حجة يبرر بها جرائمه أمام ضحاياه . . وتنتهي به لا معقولية غروره إلى السجن والمشنقة .
الإنسان غرور يبحث عن معقولية . إنه نسر محلّق وصقر متعالٍ يبحث عن قمة يقف عليها . . وأرض يستوي عليها . . ويستوي عليها جبروته وعزّته وغروره . .
والقمم الوحيدة الممكنة التي يستطيع هذا النسر أن يتربع عليها هي قمم من الأهداف المجردة . . ومثل الخير والجمال . . والعدالة . . وكلها معقولات كلها في حاجة إلى عمارات من المنطق والحجج والبراهين .
وهو إذا استطاع أن يقيم هذه العمارة فإنه يستطيع أن يغطي غروره ويخفي رغبته الأصيلة في الطموح والتفوق بقناع جميل بهيج من الخير والجمال والحق وهو بهذا يفيد ويستفيد . . ويريح ويستريح من هذه الحكة الأبدية التي تأكل قلبه . .
وهو إذا لم يستطع . . يتحول إلى صقر مجنون . . ونسر بهلوان . . لا يجد قمة يقف عليها سوى نفسه . . فيقف على رأسه بالمقلوب . . رجلاه فوق . . ورأسه تحت . . وهو منظر مضحك لا يقنع أحداً . . ونهايته مستشفى المجاذيب .
لماذا تصر زوجتي على أن يكون أثاث بيتها أحسن وشقتها أعظم وزوجها أعظم زوج . . إن هذا الغرور يغيظني . . وعلى إيه ده كله ؟ !
ولكني أكتشف . . أني أيضاً . . وأحياناً . . أتمنى أن تكون زوجتي أحسن زوجة وبيتي أحسن بيت والكلمات التي أكتبها أجمل كلمات .
إن زوجتي بفطرتها لم تعبّر عن عاطفة غريبة عنها وعني . .
إنه الفرعون القديم . . يطلب أن تُبنى له أهرام أخرى . . من مليون صفحة . . ومن ألف طابق . . ومن مائة لقب ولقب . . ولا شبع أبداً . .
الكرباج الذي ينزل على ظهرها . . ينزل على ظهري أيضاً . . . كل ما هنالك أنها قد جسّدته أكثر وأكثر لعيني . .
وهكذا الإنسان دائماً . . رغبته في التفوق لا تشبع .
وهذه لذته . .
لا أصدق أن العباقرة يضحّون بشيء ولا أن العظماء المصلحين يفتدون بدمهم أحداً . .
إن هذه لذتهم . .
لذتهم المجد والتفوق . .
ولو أنهم أعطوا الحرية والأمان وخزائن الذهب وكمّمت أفواههم لكان هذا هو عذابهم الأكبر . . واستشهادهم الحقيقي .
إنهم نسور حقيقيون لا يطلبون إلا الأعالي ولو كان طريق هذه الأعالي هو الشوك والدم والعرق . . فإن هذه الأشواك هي السكر المعقود في أفواههم .
وما هو التاريخ ؟ . .
إنه أكداس من الغرور . . والكلمات الطنّانة .
إنه الكتاب الأبدي الذي يكتبه دائماً المتحيزون . . أصحاب المصلحة . . أما الآخرين فإنهم يموتون وتموت آراؤهم معهم .
الإنسان ذلك الطاووس .
إن كل فضائله لا تستطيع أن تخفي غروره عني لأني أرى هذا الغرور . . وأكثر . . أنا أحسه . . إنه حكّة في بدني . . لا عزاء لي من لعنتها الأبدية . . إلا أن أخلق بها شيئاً جميلاً .
أحاول أن أجملها في عيني . . وفي عين الناس بالبحث عن عذر جميل لبقائها . .
الأدب . .
الفن . .
الموسيقى . .
الشعر . .
إنها سيمفونية الألوهية والعظمة والمجد والشموخ التي يعزفها الإنسان لنفسه وللناس وينام على أفيونها كل ليلة .
إن هذا البرومينيوس المصلوب على غرائزه . . تنقر غربان المجد كبده . . لا يستطيع أن ينام إلا على هذه الأنغام الإلهية . . فحينما تصدر عنه هذه الأنغام يستريح . . ويشفى كبده الجريح ويلتئم . . ولكن كبده ما تلبث أن تعود فتتآكل من جديد حينما يفيق ويجد نفسه عبداً ذليلاً نحيلاً يرتجف . . يهزمه الموت والمرض والشيخوخة .
إن كبده يعود فيدمى . . يدميه الذل والمهانة . . والضعة . . فيصرخ ويبكي ويحنّ . . ويعود يتغنّى بترانيم الآيات السماوية . . والأنغام العلوية . . ليلتمس الراحة . . وينام من جديد .
والإنسان ليس مخيّراً في هذا الغرور . . إنه محكوم عليه بغروره .
إنها ضرورة بقائه تحتم عليه أن يدافع عن هذا البقاء بأن يوظّفه في شيء ويتفوّق به على نفسه .
إن رجليه تلحّان عليه بأن يمشي ويجري ويرقص . . وعيناه تلحّان عليه بأن يدقّق ويحملق ويتفحّص . . وأنفه تلحّ عليه بأن يتشمّم . . وعقله يسوقه رغماً عنه ليفكر .
إن وجوده ليس وجوداً معلقاً في الهواء . . ولكنه حركة واندفاع تلقائي لعدة وظائف . . ولا مفر له من طاعة هذه الوظائف وتحقيقها .
إنه لا يستطيع أن تكون له ساقان ويقف مشلولاً .
وهو إذا رفض أن يوظف ساقيه وذراعيه وعقله وقلبه . . وجلس مكانه متكاسلاً متثائباً ما يلبث أن يعاقب بالملل . . الملل الفظيع الخانق الذي يظل يخنقه ويجثم على أنفاسه حتى يدفع به إلى الإحساس التام بعدم الفائدة . . وعدم النفع . . وعدم الجدوى . . ثم إلى الانتحار .
وهكذا يحكم على نفسه بالموت . . لأنه رفض أن يريد الحياة .
الإنسان تحكمه ضرورة نموّ . . ضرورة تدفعه دائماً إلى فوق . . مثل الضرورة التي تدفع عصارة النبات من الأرض إلى فوق . .
ولا يوجد طريق عكسّي .
وراءنا لا يوجد شيء . . وكل من يتقهقر يقع في هذا اللاشيء ويموت.
الحياة صمام يدفع إلى اتجاه واحد . . النّمو والارتفاع . . والعلّو . . والتفوّق والتسلّق .
والعاطفة التي تحرس هذه الدوافع ، هي الغرور . . والطموح وعشق المجد . . وما نسميه أحياناً بالكرامة والعزّة والكبرياء . . والشرف .
إنها المسلّح الذي يحول دون سقوط هذا البنيان من الورق .
غرورنا ينفخ فينا فنطير مثل طيّارات الورق إلى فوق .
كلنا أطباق طائرة . . تتفاوت مجالاتنا بحسب ما فينا من وقود وغرور .
وهذا المقال نفسه غرور .
وهذه الثقة التي أكتب بها غرور .
وإن كان اعترافي بهذا الغرور يداويني بعض الشيء من الغرور الكاذب . . ويحفظ لي كفايتي من الغرور النافع .
هل أنت مغرور ؟ . .
أنصحك بقراءة المقال من الأول