بين طفولة الروح وكبرياء العقل
إن معظم ما يطرأ على أخلاقنا من انحرافات إنما يرجع إلى المظاهر الاجتماعية الباطلة والمطامع المادية الزائلة وشتى الزيوف التي نكبل بها أنفسنا والتي تباعد بيننا وبين جوهر الحياة السليم الأسمى. وهذا الجوهر الذي لا نفطن إليه بل الذي نترفع عنه ونستهزئ به، هو روح الطفولة الكامنة فينا والتي في وسعنا كلما أصبحنا مهددين بالانحدار أن نهرع إليها لنستمد منها نقاء في النفس وصفاء في الضمير ينقدنا من انحرافاتنا ويرتفع بشخصيتنا ويملؤها بذلك الفرح الغامر المطهر الذي نتمثله في وجوه الأطفال.
والحق أن الطفل هو الحياة التي لم ينسخها العقل ولم يشوه معالمها رذائل المجتمع، هو العاطفة المطلقة والطبيعة الحرة والوجه البشري البرئ، وأنت عندما تقبل على الأطفال لا تبتهج فقط بما يفيضونه عليك من براءة وطهر، بل تبتهج أيضا بما يتراءى فيهم من مختلف صور الحياة في جيشانها الدائم مما يوحي إليك أن الحياة ما تزال أمامك بكرا ناضرة وأن عليك أن تتجه نحوها بمثل تلك الفطرة السليمة التي يتقد بها كيان الأطفال، فانظر إليهم وتأملهم...
* هذا طفل ممتلئ الخدين، متألق العينين، يضحك، فيخيل إليك أن عناصر الحياة الكبرى تمرح فيه ساخرة بالألم هازئة بالقدر
* وهذا طفل حالم منكمش، هادئ الحركة والإشارة، يبتسم فجأة فيخيل إليك أنه شاعر مستغرق في حلمه، استفاق بغتة على صوت إلهامه، فجعل ينصت لعروس شعره وهو يبتسم
* وهذا ثالث محني الرأس، مشوش الشعر متقرح العينين، يبكي، فيخيل إليك أنه والجبار المنهزم سواء، وأنه كذلك الجبار عاجز وذليل، وكذلك الجبار يكافح يرغم ألمه ويقاوم وينشد الخلاص
* وهذا رابع مشرق الطلعة، عالي الجبهة، لامع النظرة، تتدفق من هيكله الضئيل موجات من نور، فلا تكاد تحدق إليه حتى ترتجف وترتد وملء نفسك الشعور بأنك حيال قبس من صفاء الملائكة أحباب الله.
فالحياة العليا تتمثل في وجه كل طفل صغير لم يعرف الشر بعد، وهذه الحياة العليا التي تنبع من روح الطفولة قد تغنت بها طائفة كبيرة من نوابغ الشعراء والأدباء واتخذت منها مصدر وحي تبدي في تضاعيف أعمال فكري رائعة وقصائد شعرية فذة ورسائل شخصية تفيض رقة وعذوبة وجمالا، من ذلك ما كتبه الشاعر الفرنسي فيكتور هوجو في إحدى رسائله إلى الناقد المشهور سانت بوف :
"لا راحة للإنسان في حب امرأة. الراحة كل الراحة في حب الأطفال، في حبهم النزيه الذي لا يخدع وفي قلوبهم النقية التي سرعان ما تصفح وفي ابتسامتهم التي تعرف دون سواها كيف تقدم النفس للغير هبة خالصة!...
وأنا كلما نظرت إلى وجه طفل تخففت من همومي وأقبلت على الحياة بنفس راضية وزايلني على الفور إحساس التشاؤم الممض القاسي، وحل محله شعور بالتفاؤل يملؤني ثقة وعزما وقدرة على المجادلة والكفاح. ثم إن الطفل وهو ينطلق في فسحة الدنيا يندفع بالرغم منه إلى استطلاع الحياة واستكشافها وكذلك أنا عندما أتأمل الطفل اقتدي به على الرغم مني، وأريد أن استكشف الحياة مثله واستبطن أسرارها عساي استشف جوهرها الخالد الأبدي. فالطفل يعلمني كيف انظر وكيف لاحظ وكيف أسجل وكيف أحتفظ بنزعة الاستطلاع التي هي وقود العقل وباعث المعرفة"
أما الشاعر الهندي طاغور فقد كتب إلى الأديب الفرنسي رومان ولان رسالة مستفيضة جاء فيها :
"... عندما كنت شابا، كانت غرائزي أقوى مني، وكانت جاذبية الملذات المحرمة على وشك أن تستبد بي وتهلكني، فلكي أتغلب عليها وأقهرها، لجأت إلى الله، وشرعت أصلي وأصوم، وأحاول أن أنظم شعرا روحيا خالصا أمجد به الذات المهيمنة علي، ولكني أحسست مع ذلك أن نفسي لم تكن طاهرة كما كنت أتمنى، واني غير جدير بالرعاية الإلهية التي كنت أنشدها، وأن تلك الجاذبية المحرمة الخبيثة ما تزال تحوم حولي وتراودني، فاضطربت وتخبطت ومضيت ابحث في كياني عن حافز معنوي ينقذني. وعلى حين فجأة تمزق الضباب الذي كان يغشي حياتي وانجابت السحب عن بصيرتي فأشرق وجداني وعقلي وأدركت... أدركت أني من المحال أن أمجد الله كما أروم وأبتغي ومن المحال أن أعبده حق عبادته، ومن المحال أن أبدع شعرا روحيا خالدا، إلا إذا أيقظت في نفسي روح طفولتي، وتطهرت بمائها القراح من كل رجس في فكري وجسدي، وجمعت في شعري بين عقل الرجل الناظر في حكمة إلى شؤون الأرض، وبين قلب الطفل المتصل في براءة بأجواز السماء... فالرجوع إلى الطفولة كان خلاصي، ومن نبع الطفولة مازلت استمد وحيا لشعري، وقوة أحلق بها في رحاب الحياة ممجدا خالقها الذي هو ربي!..."
فاحرص على طفولة روحك حرصك على حدقة عينيك الثمينة، وإياك أن تجعل عقلك المتكبر الأناني يطغى عليها، واعلم أن بين طفولة الروح وتكبر العقل معركة يومية دائمة، لو هزمت الطفولة فيها، فالأخلاق لابد أن تتحلل والسعادة الروحية لابد أن تموت، والعقل يصبح نهبا مقسما لأوضع ما في النفس من غرائز حيوانية.
**************************************************
كل مساهماتي منقولـــــــة، ارجو ان اكون وفقت في نقلها بقصد الافادة
***
لا اله الا انت سبحانك، اني كنت من الظالمين
اللهم اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات، الاحياء منهم والاموات
اللهم آمين يارب العالمين