العطّار وصاحب العِقد
جاء رجل إلى بغداد ، وهو في طريقه إلى مكة للحج ، وكان معه عقدٌ من اللؤلؤ النادر الثمين يساوي ألف دينار ، أراد الرجل أن يبيع العقد لكنه لم ينجح لأنه طلب فيه مبلغاً كبيراً ، وعندما قرب موعد الحج ذهب الرجل إلى عطّار موصوف بالخير والأمانة ، وقال له : يا أخي لقد عزمت الذهاب إلى الحج ومعي هذا العقد ، ولكنـني أخاف أن يسلبه اللصوص مني في الطريق ، فأرجو أن تجعله أمانةً عندك حتى أعود من السفر ،،،
نظر العطّار إلى العقد فأصيب بالانبهار ، فلقد كان عقداً ثميناً حقاً وقال : إذهب يا أخي وكن مطمئناً فعقدك عندي حتى تعود ،،،
ذهب الرجل إلى الحج وأدّى الفريضة ثم عاد إلى بغداد وهو يحمل معه هديةً من بيت الله إلى العطار ، فلما وصل بيته قرع عليه الباب فأطل العطار من النافذة ،،،
قال الرجل : السلام عليكم يا صديقي ، لقد جئتك بهديةٍ من مكة ،،،
فسأله العطار منكراً : من أنت...؟!
أجاب الرجل : أنا صاحب العقد ألا تذكرني...؟!
وقبل أن يتم الرجل كلامه رفسه العطار رفسةً قويةً ألقت به بعيداً ، فأجتمع الناس حوله ، وحكى لهم قصة العقد الذي أودعه عند العطار ، فسخر الناس منه وكذبوه قائلين : يا رجل ، ألم تجد غير العطار تدّعي عليه مثل هذه الكذبه...؟!
إنه رجلٌ أمين ،،،
فتحير الحاج وذهب للرجل في دكانه في اليوم التالي وطالبه بالعقد ، فلم يحصل منه على غير الشتم والضرب ،،،
جلس الحاج في السوق يائساً باكياً يندب سوء حظه وضياع عقده ، فأوصاه أحد المارة بأن يذهب إلى الحاكم عضد الدولة ، فله في مثل هذه الأمور فراسةٌ وذكاء ،،،
ردّد الرجل في نفسه : سأذهب إليه الذهاب خيرٌ لي من الجلوس والبكاء ،،،
سمع عضد الدولة الحكاية ، وأحس بصدق الحاج وخيانة العطّار وقرر أن يكشف الجريمة فقال للحاج : إذهب إلى دكان العطّار غداً ، وأقعد على دكته ، فإن منعك فأجلس على دكةٍ تقابل دكانه من الصباح حتى المغرب ، ولا تكلمه ، وكرر جلوسك هذا ثلاثة أيامٍ ، وفي اليوم الرابع سوف أمر عليك ، فلا تنهض لي ولا تكلمني إلا بمقدار ما أسألك عنه ، وعندما أنصرف عنك تقدم نحو العطّار وأطلب منه أن يرد العقد ، فإن ردّه عليك فتعال إلي ،،،
فهم الحاج كلام عضد الدولة ، وأنطلق ليجلس أمام دكان العطار ثلاثة أيام متـتالية ، وكان العطّار يراه ولا يكلمه ،،،
وفي اليوم الرابع إجتاز عضد الدولة السوق وهو بموكبه العظيم على فرسه ، يحيط به الخدم والحشم ويلتف حوله الحراس والمرافقون ، والناس تتفرج عليه ، وعندما وصل عضد الدولة إلى دكان العطّار ورأى الحاج جالساً أمامه ، قال له : السلام عليكم ،،،
فلم ينهض الحاج من مكانه بل أكتفى برد السلام ، وشعر الناس بالدهشة وتساءلوا من يكون هذا الرجل الذي سلّم عليه عضد الدولة فلم ينهض له ويبالغ في إحترامه...؟!
فقال عضد الدولة مخاطباً الحاج : يا أخي كيف تصل إلى بغداد ولا تزورنا ، ولا تعرض علينا حاجاتك ومشاكلك...؟
فلهم يهتم الحاج لكلام عضد الدولة بل كان يجيب بأجوبةٍ سريعةٍ متفقٍ عليها سابقاً ، فأنصرف عضد الدولة وترك الحاج في مكانه ، وكان العطّار يراقب ما يجري وهو يشعر بخوفٍ شديد ، وراح يندب سوء حظه ويردد في نفسه : آه ، كيف أنكرت عقد هذا الرجل ، ويبدو أنه قريب عضد الدولة...؟
الويل لي ، الويل لي ،،،
وهنا توجه الحاج إلى دكان العطّار وقال له : أرجع لي العقد أيها العطّار ،،،
تلعثم العطّار وأرتبك وقال : حسناً..حسناً..المعذرة ، سأرده إليك ، اللعنة على النسيان ، لقد تذكرتك وتذكرت عقدك الآن ،،،
أخرج العطّار العقد من جرةٍ كانت في دكانه وقدمه للحاج وهو يكاد يغمى عليه من الخوف ،،،
أخذ الحاج العقد وذهب به إلى عضد الدولة وأخبره بما جرى ، فأمر عضد الدولة حاجبه أن يأخذ العقد ويعلقه في عنق العطّار ويصلبه بباب دكانه ، وراح الحراس ينادون : هذا جزاء من خان الأمانة ،،،
وعندما ذهب الناس سلّم الحاجب العقد إلى صاحبه فأخذه وأنصرف إلى بلدته وهو يلهج بحكمة عضد الدولة .
**************************************************