من علوم الشعر التضمين والإجازة
يقول ابن رشيق القيرواني هذا باب يختلط على كثير من الشعراء ممن ليس له ثقوب في العلم ولا حذق بالصناعة، كجماعة ممن وسم في بلدنا بالمعرفة، وينسب إليها مكذوباً عليه فيها، كاذباً فيما ادعاه منها، ولتعرفنهم في لحن القول.
التضمين فهو قصدك إلى البيت من الشعر أو القسيم فتأتي به في أواخر شعرك أو في وسطه كالمتمثل، نحو قول محمود بن الحسين كشاجم الكاتب
يا خاضب الشيب والأيام تظهره هذا شباب لعمر الله مصنوع
أذكرتني قول ذي لب وتجربة في مثله لك تأديب وتقريع
إن الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبين الناس أن الثوب مرقوع
فهذا جيد في بابه، وأجود منه أن لو يكن بين البيت الأول والآخر واسطة؛ لأن الشاعر قد دل بذلك على أنه متهم بالسرق، أو على أن هذا البيت غير مشهور، وليس كذلك، بل هو كالشمس اشتهاراً، ولو أسقط البيت الأوسط لكان تضميناً عجيباً، لأن ذكر الثوب قد أخرج الثاني من باب الأول إلا في المعنى، وهذا عند الحذاق أفضل التضمين، فإنما احتذى كشاجم قول ابن المعتز في أبيات له :
لا ذنب لي إن ساء ظنك بعدما ... وفيت لكم، ربي بذلك عالم
وها أنا ذا مستعتب متنصل ... كما قال عباس وأنفي راغم
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم
وأبيات العباس بن الأحنف التي منها البيت المضمن هي قوله:
وصب أصاب الحب سوداء قلبه ... فأنحله، والحب داء ملازم
فقلت له إذ مات وجداً بحبه ... مقالة نصح جانبتها المآثم:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوماً فقل: أنا ظالم
فإنك إن لم تحمل الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم
غير أن شيخنا أبا عبد الله روى هذه الأبيات أيضاً لابن المعتز.
فهذا النوع من التضمين جيد، وهو الذي أردنا من قبل؛ وأجود منه أن يصرف الشاعر المضمن وجه البيت المضمن عن معنى قائله إلى معناه، نحو قول بعض المحدثين، ونسبه قوم إلى ابن الرومي:
يا سائلي عن خالد، عهدي به ... رطب العجان وكفه كالجلمد
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي
هكذا أعرفه، وروى " عن جعفر " فصرف الشاعر قول النابغة في صفة الثغر:
تجلوا بقادمتي حمامة أيكةٍ ... برداً أسف لثاته بالإثمد
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي
إلى معناه الذي أراد.
ومن هذا المعنى أيضاً قول ابن الرومي بلا محالة:
وسائلة عن الحسن بن وهبٍ ... وعما فيه من كرم وخير
فقلت: هو المهذب غير أني ... أراه كثير إرخاء الستور
وأكثر ما يغنيه فتاه ... حسين حين يخلو بالسرير
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
فالبيت الأخير لمهلهل، فجاء قرع البيض بالذكور ههنا عجيباً، وإن كانت اللفظتان في المعنى غير اللفظتين.
ومن الشعراء من يضمن قسيماً نحو قول بعضهم، أظنه الصولي خلقت على باب الأمير كأنني
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
إذا جئت أشكو طول ضيق وفاقة ... يقولون: لا تهلك أسى وتحمل
ففاضت دموع العين من سوء درهم ... على النحر حتى بل دمعي محملي
لقد طال تردادي وقصدي إليكم ... فهل عند رسم دارس من معول
ومنهم من يقلب البيت فيضمنه معكوساً، نحو قول العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان لمسلمة بن عبد الملك
لقد أنكرتني إنكار خوف ... يضم حشاك عن شتمي وذحلي
كقول المرء عمرو في القوافي لقيسٍ حين خالف كل عذل
عذيرك من خليلك من مراد أريد حياته ويريد قتلي
والبيت المضمن لعمرو بن معدي كرب الزبيدي، يقوله لابن أخته قيس بن زهير بن هبيرة بن مكشوح المرادي، وكان بينهما بعد شديد وعداوة عظيمة، وحقيقته في شعر عمرو
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا رأى ابن ملجم تمثل بهذا البيت.
ومن التضمين ما يجمع فيه الشاعر قسمين من وزنين كقول علي بن الجهم يعرض بفضل الشاعرة جارية المتوكل وبنان المغني وكانا يتعاشقان فإذا غنى بنان:
اسمعي أو خبرينا ... يا ديار الظاعنينا
غنت هي كالمجاوبة له عما يقول:
ألا حييت عنا ما مدينا ... وهل بأس بقول مسلمينا
فقال علي منبهاً عليهما في ذلك:
كلما غنى بنان ... اسمعي أو خبرينا
أنشدت فضل ألا حي ... يت عنا يا مدينا
عارضت معنى بمعنى ... والندامى غافلونا
أحسنت إذ لم تجاوب ... هم ديار الظاعنينا
لو أجابتهم لصرنا ... آية للسائلينا
واستعاد الصوت مولا ... ها وحث الشاربينا
قلت للمولى وقد دا ... رت حميا الكأس فينا
رب صوت حسن ين ... بت في الرأس قرونا
وأنشد ابن المعتز في باب التضمين للأخطل:
ولقد سما للخرمي فلم يقل ... يوم الوغى لكن تضايق مقدمي
إشارة إلى قول عنترة العبسي:
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولكني تضايق مقدمي
وهذا تضمين أنت ترى كيف هو، وأنشد لآخر:
عوذ لما بت ضيفاً له ... أقراصه مني بياسين
فبت والأرض فراشي وقد ... غنت قفا نبك مصاريني
ومن التضمين ما يحيل الشاعر فيه إحالة، ويشير به إشارة، فيأتي به كأنه نظم الأخبار أو شبيه به، وذلك نحو قول بعضهم في معنى قول ابن المعتز كما قال عباس وأنفي راغم إنه لم يرد الأبيات المقدم ذكرها، وإنما أراد قوله للرشيد حين هجرته ماردة:
لا بد للعاشق من وقفةٍ ... تكون بين الوصل والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
فهذا النوع أبعد التضمينات كلها، وأقلها وجوداً، وذلك نحو قول أبي تمام:
لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرق وأحمى منك في ساعة الكرب
أراد البيت المضروب به المثل:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقد صنعت أنا معنى الهجاء:
عرسه من غير ضيرٍ ... عرس زيد بن عمير
أبداً تزني فإن حاض ... ت تقد حباً لأير
ولها رجلان من نا ... قة كعب بن زهير
هكذا تبنى المعالي ... ليس إلا كل خير
" زيد بن عمير " هو الذي يقول في زوجته:
تقود إذا حاضت، وإن طهرت زنت ... فهي أبداً يزنى بها وتقود
و " كعب بن زهير " يقول في وصف ناقته:
تهوى على يسرات وهي لاهية ... ذوابل وقعهن الأرض تحليل
فكانت هذه المرأة في حاليها لا تقع رجلاها بالأرض: إما لكثرة مباضعة أو شدة مشي في فساد.
ومن أنواع التضمين تعليق القافية بأول البيت الذي بعدها، وقد تقدم ذكره.
وأما الإجازة فإنها بناء الشاعر بيتاً أو قسيماً يزيده على ما قبله، وربما أجاز بيتاً أو قسيماً بأبيات كثيرة، فأما ما أجيز فيه قسيم بقسيم فقول بعضهم لأبي العتاهية: أجز برد الماء وطابا فقال: حبذا الماء شرابا وأما ما أجيز فيه بيت ببيت فقول حسان بن ثابت وقد أرق ذات ليلة فقال متاريك أذناب الأمور إذا اعترت ... أخذنا الفروع واجتنبنا أصولها
وأجبل، فقالت ابنته: يا أبت، لا أجيز عنك، فقال: أوعندك ذاك؟ قالت: بلى، قال: فافعلي، فقالت
مقاويل للمعروف خرس عن الخنا ... كرام يعاطون العشيرة سولها
قال: فحمي الشيخ عند ذاك، فقال وقافية مثل السنان ردفتها ... تناولت من جو السماء نزولها
فقالت ابنته:
راها الذي لا ينطق الشعر عنده ... ويعجز عن أمثالها أن يقولها
وذكر أن العباس بن الأحنف دخل على الذلفاء فقال: أجيزي عني هذا البيت:
أهدى له أحبابه أترجة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر
فقالت غير مفكرة:
خاف التلون إذ أتته لأنها ... لونان باطنها خلاف الظاهر
فحلف لها بكل الأيمان، وكانت تعزه، لئن ظهر البيت إن دخلت منزلكم أبداً، وأضافه إلى بيته.
وأما ما أجيز فيه قسيم بيت ببيت ونصف فقول الرشيد للشعراء: أجيزوا: الملك لله وحده فقال الجماز: وللخليفة بعده
وللمحب إذا ما ... حبيبه بات عنده
واستجاز سيف الدولة أبا الطيب قول عباس بن الأحنف:
أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظي في ستره أوفر؟
فصنع القصيدة المشهورة:
هواك هواي الذي أضمر ... وسرك سري فما أظهر
إلا أنه خرج فيها عن المقصد.
والإجازة في هذا الموضع مشتقة المعنى من الإجازة في السقي، يقال: أجاز فلان فلاناً، إذا سقى له أو سقاه، الشك مني، وأما اللفظة فصحيحة فصيحة.
وقال ابن السكيت: يقال للذي يرد على أهل الماء فيستقى: مستجيز: قال القطامي:
وقالوا فقيم الماء فاستجز ... عبادة؛ إن المستجيز على قتر
ويجوز أن يكون من " أجزت عن فلان الكأس " إذا تركته وسقيت غيره، فجازت عنه دون أن يشربها، فقال أبو نواس:
وقلت لساقينا أجزنا فلم أكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
فجوزها عني عقاراً ترى لها ... إلى الشرف الأعلى شعاعاً مطنبا
وقد تقدم ذكره الإجازة التي فيها عيوب القوافي، وذكرت اشتقاقها.
ومن هذا الباب نوع يسمى التمليط، وهو أن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيماً وهذا قسيماً لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه، وفي الحكاية أن امرأ القيس قال للتوأم اليشكري: إن كنت شاعراً كما تقول فملط أنصاف ما أقول فأجزها، قال: نعم، قال امرؤ القيس: أحار ترى بريقاً هب وهناً فقال التوأم: كنار مجوس تستعر استعارا ف قال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح فقال التوأم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا ولا يزالان هكذا، يصنع هذا قسيماً وهذا قسيماً إلى آخر الأبيات.
وقد تقدم إنشادها في باب أدب الشاعر من هذا الكتاب.
وربما ملط الأبيات شعراء جماعة، كما يحكى أن أبا نواس والعباس بن الأحنف والحسين بن الضحاك الخليع ومسلم بن الوليد الصريع خرجوا في متنزه لهم ومعهم يحيى بن المعلى، فقام يصلي بهم، فنسي الحمد وقرأ " قل هو الله أحد " فأرتج عليه في نصفها، فقال أبو نواس: أجيزوا:
أكثر يحيى غلطاً ... في قل هو الله أحد
فقال عباس:
قام طويلاً ساهياً ... حتى إذا أعيا سجد
فقال مسلم بن الوليد:
يزحر في محرابه ... زحير حبلى بولد
فقال الخليع:
كأنما لسانه ... شد بحبل من مسد
وأنشدني بعض أصحابنا هذه الأبيات على طريق الاستملاح لها والاستظراف بها، وقال: هذا الذي يعجز الناس عنه، فقلت: فما بال عباس وأبي نواس لم يقولا بعد البيت الأول:
ونسي الحمد فما ... مرت له على خلد
ولا سيما وقد كان ذلك حقيقة، وكذلك جرت الحكاية، فقال: ولمن البيت؟ فقلت: لابن وقته.
واشتاق التمليط من أحد شيئين: أولهما أن يكون من الملاطين، وهما جانباً السنام في مرد الكتفين، قال جرير:
ظللن حوالي خدر أسماء، وانتحى ... بأسماء موار الملاطين أروح
فكأن كل قسيم ملاط، أي: جانب من البيت، وهما عند ابن السكيت العضدان. والآخر وهو الأجود أن يكون اشتقاقه من الملاط وهو الطين يدخل في البناء يملط به الحائط ملطاً، أي: يدخل بين اللبن حتى يصير شيئاً واحداً. وأما الملط وهو الذي لا يبالي ما صنع والأملط الذي لا شعر عليه في جسده؛ فليس لاشتقاقه منهما وجه.
**************************************************