جذور الشقاء
إن للشقاء في حياة البشر جذورًا أنبتته، وهي كما يعتقده البعض من الناس: الفقر، والضَّنْك المادي؛ لأنه مدعاة للهمِّ والضياع، والبعض الآخر يقول: إنها المناصبُ والرُّتب؛ لأنها تستلزم السهر والتعب، وكذلك منهم من يذهب بالقول: إن المرض هو الشقاء بعينه، ولم يقتصر الأمر على الجذور فقط؛ لأنه مجلب لمعاناةٍ، ويدعو إلى الاستكانة، وأن كلًّا من الفقر والمناصب والمرض أمور لا بدَّ من وجودها في الحياة؛ لأنها أمور مقدَّرة من الله تعالى.
وبعد هذا كلِّه إن الجذور الحقيقية للشقاء ما هي إلا تقصير قُوى الإنسان العقلية عن أداء وظائفها بشكل صحيح؛ وهو الجهل !
فقد ترجع الكثير من المشاكل إليه.
فمثلًا: انزل إلى ظلمات السجون، وسَلْ ساكنيها عما أوصلهم إلى هذه السجون، تجد الجواب: الجهل، واذهب إلى المستشفيات وسَلْ ذوي الوجوه المصفرة: مَن الذي جلبَهم إلى هذه الأماكن؟ تجد الجواب: الجهل.
فالجهل محقِّر العظماء، ومضيِّع السفهاء، وله نوعان :
نوع فطريٌّ بسيط ، يولد مع كل إنسان، وهو يسقط عندما يعرِف العلمَ، وهو كما كان عليه آباؤنا وأجدادنا، وأنهم على ما كانوا عليه من السَّذاجة، إلا أنهم أسعدُ منا نحن اليوم؛ لأنهم كانوا تملَؤهم الغِبْطة والرِّضا والحبور في نفوسهم.
أما النوع الثاني: وهو الجهل المركَّب، المكتسَب؛ ويعني: أنه بعد أن يعرف الإنسان ويكتسب شيئًا من العلم يرجع، ويفقد كلَّ ما تعلَّمه، وهو أخطر من الجهل الفطري البسيط.
فالعالم المتمدِّن اليوم يستغيث من شرور المتعلِّمين، وهم حملة الجهل المركب ، أكثر من جهلة الفطرة.
ومن الأمثلة على جهلة العلم: رجال الدين الذين أوصلوا الأمةَ إلى حافة الهاوية، فهم لديهم جهل دينيٌّ مركَّب، ومن هذا أكسبوا الأمة الإسلامية جهلًا مذهبيًّا وأدخلوا مفاهيم خاطئة عن الدين الإسلامي، أدَّت هذه المفاهيم إلى جعل أعداء الإسلام يقتحمون علينا عقولَنا وقلوبنا وأخلاقياتنا، ويجلسون فيها، حتى التبس لدينا كثير من المفاهيم الخاطئة، التي أوصلتنا إلى الفُرقة والخلاف والجدل، أشبهَ ما تكون بدودةِ الأرضة تنخرُ جسمَ الأمة، وتفتِّت أعضاءها، فلا تستطيعُ الصمود أمام عاصفة أو تحدٍّ أو اعتداء؛ فلا يجوز للمسلمين التفرُّق بأي حال من الأحوال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى المسلمين بعدم الفُرقة، كما قال في حديثه: ((وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملَّة كلهم في النار إلا ملَّةً واحدة)) قالوا: ومَن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))؛ رواه أحمد والترمذي.
فالحقُّ ما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، فعليكم بالاتِّباع، وإياكم والابتداعَ.
أما النوع الثاني من أصحاب الجهل المركَّب فهم: الدجَّالون؛ فما إن كثر الفقر في بلاد، وقلَّتْ أسباب المعيشة، وبالتالي عمَّ فيها الجهل، وخيَّم فوق ربوعها الغباوةُ - كثر فيها هؤلاء الدجَّالون على أنواع مختلفة، للتعيُّش والارتزاق؛ لأنهم لكي يعالجوا الفقر سلكوا مسالكَ ملتوية، فيها نوع من الجهل المركب.
وكذلك هناك صورة أخرى ونوع آخر من حملة الجهل المركب، هم رجال السياسة؛ أي: الحكام الذين همُّهم من الحكم الجلوس على الكراسيِّ بدافع الرغبة، والأُمنيَّة، والتجبُّر على الضعفاء، وليس للإصلاح والإعمار.
وأخيرًا: إن الجهل إذا خيَّم في بلاد اتَّشحت مدنُها بالظلام، وأصبحت الأمة مقيَّدة اليدين، ومعصوبة العينين، لا تعرف إلى أيِّ هاوية تُساق.
كما قال الشاعر:
إذا ما الجهل خيَّم في بلادٍ ♦♦♦ رأيتَ أُسودَها مُسِخَت قُرودَا
وفي نهاية المطاف عرفنا أن جذورَ الشقاء سُقيت بماء الجهل، وأنبتت ما يبقى يثمر شقاءً، إلى أن تتسبَّب في شقاء البشرية جمعاء.
**************************************************