البحتري وأبو تمام في مجلس الأمير القائد العسكري
حكى البحتري (820 - 897) عن أول مرة التقى بأبي تمام (804 - 846) قبل أن يعرف من هو، فقال: أول ما رأيت أبا تمام كان يوم دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي التي مطلعها:
أأفاقَ صبٌّ من هوىً فأُفيقا أم خان عهداً، أم أطاع شفيقا (الشفيق: الناصح المخلص).
فسر بها، وقال: أحسنت والله يا فتى. وكان في مجلس الأمير رجل رفيع المجلس منه، فوق كل من حضر في مجلسه، فأقبل علي وقال: "يا فتى أما تستحي؟ هذا شعري تنتحله، وتنشده بحضرتي؟" فقال أبو سعيد، صاحب المجلس، "أحقاً ما تقوله به؟" قال: "نعم، وإنما علقه مني، فسبقني به إليك”، ثم اندفع فأنشده القصيدة التي ألفها البحتري (وهي 72 بيتاً)، حتى شككه في نفسه، وبقي متحيراً، فأقبل عليه أبو سعيد، فقال: "يا فتى! كان في قرابتك منا، وودك لنا ما يعفيك عن هذا!".
بدأ البحتري يحلف بكل محرجة من الأديان أن الشعر له، وما سبقه إليه أحد، ولا سمعه، ولا انتحله، فلم يشفع ذلك شيئاً، وأطرق صاحب المجلس أبو سعيد، وقطع الكلام، حتى تمنى البحتري أن ساخ في الأرض، فقام منكسر البال يجر رجليه، وخرج.
فما هو إلا أن بلغ باب الدار حتى أقبل عليه الرجل، وقال: "الشعر لك يا بني! والله ما قلته قط، ولا سمعت به إلا منك، ولكن ظننت أنك تهاونت بموضعي، فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا، تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي؛ حتى عرفني الأمير نسبك ووصفك، فوددت ألا تلد طائية إلا مثلك!" وجعل أبو سعيد يضحك، فدعاه أبو تمام، وضمه إليهم وعانقنه، وأقبل يمدحه، ومن وقتها، يقول البحتري: "لزمته بعد ذلك، وأخذت عنه واقتديت به".
وهنا أيضاً، مجلس الأمير يستخدم كمسرح لمنافسة بين مبدعين، هما البحتري وأبو تمام. في مجال الذاكرة والإبداع بدأت صداقتهما، وكان صاحب المجلس مضيفاً لكليهما ومكرماً لشعرهما.
وفي التأكيد على أهمية الذاكرة في مجال التأليف والشعر، يروى أن الشاعر ديك الجن الحمصي طلب من أبي تمام أن يحفظ 100,000 بيت من الشعر، وعندما حفظها طلب منه أن ينساها ليبدأ كتابة الشعر.
**************************************************