علم الدولة : الجنس : تاريخ التسجيل : 06/07/2010عدد المساهمات : 5670نقاط : 9147الموقع : العراقالجنسية : عراقية
موضوع: قصة عن الصمت الأربعاء 28 مارس - 21:18
قصة عن الصمت
دعا الثريُّ زملاءه التجار الكبار إلى مأدبة عشاء في حديقة بيته الريفي الكبير، ودعا كذلك صديقه المثقف الموسوعي، ليتحف به الضيوف الذين لا يعرفونه.
في أثناء الغداء الدسم الحافل بما لذ وطاب، كان المثقف صامتًا، منشغلاً بالأصناف المتعددة من لحم الطيور والفطائر، في حين كان باقي الضيوف وصاحب المأدبة يتبادلون الأحاديث عن السوق وأحواله ما بين المضغة والرشفة.
بعد مدة، رفع عامل الحديقة بقايا الطعام، في حين كانت أنفاس الرجال تخرج بصعوبة من التخمة، وقد بدا على بعضهم النعاس.
ثم تفرَّغ لوضع الشاي على (الكانون)، وهو جالس تحت أرجلهم. وبعد قليل، عندما بدأت أنفاسهم الثقيلة تنتظم قليلا مع النسيم المنعش، فاتَحَ صاحبُ المأدبة صديقَه في قضية ساخنة من قضايا الساعة، كأنما يفتتح الجلسة، أو كحاوٍ يخرج ثعبانه.. ففهم المعنيُّ الإشارة.
أسند ظهره، ومط شفتيه، وحرك فمه يمنة ويسرة؛ كأنما ينشطه، بدأ يتكلّم ببطء شديد، والكلمات تخرج ممطوطة مفخَّمة، منتفخة، كحية مستنفرة. ثم أسرع شيئًا فشيئًا، فبدأت تسعى، فتمطوا واحدًا تلو الآخر، وبدءوا يتكلمون، هذا على استحياء؛ خوفًا من أن يتهم بالجهل، وهذا بحماسة؛ يريد أن يعجب المثقف والبقية، والجالس عند الأرض لم يبرح مكانه إلا ليوزع الأكواب الصغيرة من الشاي الثقيل، كان رأسه يلف ببطء في البدء، حسبما كانت سرعة المحاورة حوله وعدد من ابتدروها، وشيئاً فشيئاً بدأ الرأس يلف سريعًا.. ونجمُ الجلسة حريص على السيطرة، وقد شم شهوةَ البعض لمناجزته.
بدأ يصحح لهذا، ويشرح لهذا، وينتقد رأي هذا، في ساعتين من الكلام في السياسة والأدب والاقتصاد والبورصة والفن، ونميمة المجتمع. والرجل الجالس أمامهم على الأرض، ينفخ في الحطب حينًا، وينظر للنجم حينًا، بعين حمراء قد آذاها الدخان، يقدم الأكواب ويتراجع جالساً ينظر للرجل المتكلّم أو لمناجزيه أو للمختبئين فيه.
والخلاصة أن المثقف أثار إعجابَ الحضور جميعًا، وبدا الفارقُ بينه وبين من حاوروه واضحًا، فهدأت السرعة، وارتفعت الأفعى في الختام؛ كلمات ممطوطة مفخَّمة، ثم ارتخت معلنة انتصارها بصمت الحاضرين إزاء الأبهة.. ثم سأله صاحب المأدبة؛ متباهيا به، عن عدد اللغات التي يتكلَّم بها؟ فأجاب: أتكلم بست لغات.
ونظر النجم للغريم الذي لم ينزل الحلبة، أي للرجل الأحمر العينين المنكب على النفخ في الحطب، فوضع الرجل وجهه في عُدته بين السطل والحطب المشتعل، لا يصدق أنه على مرمى بصر هذا، وقال: – وماذا عنك أنت؟ – أنا؟!…. أستطيع أن أسكت بستّ لغات..!