علم الدولة : رقم العضوية : 16 الجنس : تاريخ التسجيل : 12/09/2009عدد المساهمات : 4956نقاط : 7566الجنسية : عراقية
موضوع: التوحيد في سورة الشعراء الإثنين 5 أكتوبر - 20:30
التوحيد في سورة الشعراء
ما سمعنا أن أحدًا سمع شعرًا، فاقشعر جلده ولان قلبُه، ودخله الوجل، وأحس بالاطمئنان، وشعر بالهداية والسكينة وزاد الإيمان في قلبه! ذلك أن القرآن الكريم هو الذي يحدث هذه الأمور عند تلاوته وسماعه وتدبُّره!
فالشعر كلام البشر، والقرآن كلام رب العالمين، ولقد تحدى الله تعالى البشر والجن بأن يأتوا بسورة من مثله، فلم يأتوا لا مجتمعين ولا متفرقين، ولا زال الإعجاز والتحدي قائمًا وإلى قيام الساعة.
إن العرب الذين نزل فيهم القرآن تحيروا لما سمعوه، وفقدوا توازنهم، وأيقنوا أنه ليس من كلام البشر؛ لذا لم يدخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مناظرة شعرية أو أدبية، كما كانوا يفعلون في أسواقهم الأدبية، ومساجلاتهم الشعرية، فيختارون أفضل القصائد ويعلقونها في الكعبة، لم نسمع عن مثل تلك المناظرات، بل إن سماعهم للحروف المتقطعة أذهلتهم وجعلتهم في حيرة من أمرهم، فعجزوا عن قبول التحدي، فتحولوا إلى الشتم والاتهام والرمي بالجنون وبالكهانة، وبأنه صلى الله عليه وسلم شاعر، وهم بذلك وقعوا في مغالطة كبيرة، إذ لو كان شعرًا وأنتم شعراء، فلماذا لم تقبلوا التحدي فتأتوا بمثله أو بمثل بعضه؟ إنهم لم يفعلوا، ووقفوا عند حد الاتهام، وهذا حال العاجز؛ كما فعل سحرةُ فرعون ومَلَؤُه؛ لما عجزوا عن مجاراة موسى عليه السلام فيما أتى به.
اتهموه بأنه ساحر عليم، وبأنه مجنون، ولهذا بدأت سورة الشعراء بقصة موسى عليه السلام مع فرعون وسحرته، تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم، وتذكيرًا بحال أعداء الدعوة في كل مكان وزمان.
وكما كانت العداوة بين موسى وفرعون بسبب الألوهية ومن الأحق بها؛ أهو الله عز وجل أم فرعون؟ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29]، كذلك كانت العداوة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش حول قضية الألوهية، ومن الأحق بالاتباع، أهو حكم الله أم حكم الجاهلية؟ وهل الألوهية لله أم لصناديد قريش وأوثانهم؟
إن الشعر كلام بشر حلاله حلال وحرامه حرام، ومنه ما هو جائز ومندوب، ومنه ما هو مكروه ومحرم؛ كما قال القرطبي في تفسيره، وذكر ما رواه الإمام مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: معك من شعر أمية بن الصلت شيء؟ قلت: نعم، قال: (هيه)، فأنشدته بيتًا، حتى أنشدته مائتي بيت.
ثم قال القرطبي: (وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها لما تضمنت من الحكم والمعاني المستحسنة شرعًا وطبعًا، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية؛ لأنه كان حكيمًا، ألا ترى قوله عليه السلام: (وكاد أمية بن الصلت أن يُسلم)، وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرًا، فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر، فقال: ويلك يا لكع، وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي؛ فحسنه حسنٌ، وقبيحه قبيح[1].
قلت: ومن أعطاه الله فصاحة في اللسان وقوة في البيان والتبيان، وسخَّر تلك المواهب الربانية في الذب عن دين الله والدفاع عن شريعته، فإن ذلك من أعظم الجهاد، فلا شك أن الجهاد باللسان يسبق الجهاد بالسيف والسنان، والجهاد بالقول واللسان، وبيان الحجة وإقامة الأدلة، هو جهاد الدعوة، وهو أول مراتب الجهاد، فأما ذخيرته فهي الصبر والعزم والتصميم، وسيفه الحجة والبرهان، والمقذوف كلمات منطلقة مصوبة على عقول المعاندين، وصدور المعرضين وقلوب الغافلين، وعروش الحكام الجائرين؛ فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)[2]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل)[3].
وبعد قصة موسى عليه السلام، جاء ذكر إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام الذي جاهد أعداء التوحيد بلسانه ويده؛ فبعد أن بيَّن أن الآلهة المصنوعة التي يعبدها قومه لا تسمع دعاءً، ولا تملك نفعًا ولا ضرًّا، قال معلنًا الحقيقةَ مع دلائلها، ومعلنًا البراءة والعداوة لتلك الآلهة المزيفة، ومثبتًا الإيمان والولاء لله ربِّ العالمين، ذاكرًا للنفي والإثبات وهما ركنا التوحيد، ومبينًا لمعنى لا إله إلا الله في قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 75 - 77]، ثم لماذا الولاء لله؟
إن الخالق الذي يملِك الهداية والذي يطعم ويسقي ويشفي، ويميت ويحيي، ويملك مغفرة الذنوب وإجابة الدعاء، هو ربي الذي أعبده وأخضع له، وأُطيعه وأُقر له بالعظمة والكبرياء، وأصرف له الخوف والرجاء، أما آلهتكم المخلوقة الهزيلة، فأنا أكفر بها وأحتقرها وأعاديها؛ لأنها لا تستحق إلا الضرب باليمين؛ لتكون جذاذًا مفتتة، وقطعًا متناثرة!
بيَّنت السورة أنه لن ينجوَ من عذاب يوم القيامة ومن الخزي يوم لا ينفع مال ولا بنون، ﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 89]؛ أي: إلا الإيمان بالله، وإخلاص الدين له، والتبري من الشرك، والمراد بالسليم: أي السالم من الشك والشرك، قال ابن كثير: قال محمد بن سيرين: القلب السليم: أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وقال ابن عباس: (إلا من أتى الله بقلب سليمٍ): حين يشهد أن لا إله إلا الله، وقال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن إلى السنة[4].
وبعد ذكر حال الأنبياء الداعين إلى توحيد الله، وذكر مآل وعذاب المكذبين المستنكفين عن عبادة الله، جاء هذا التوجيه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 213، 214].
إن تجريد التوحيد من الشرك وشوائبه، هو أُس العقيدة، لذا كان هذا الخطاب الشديد الذي لا يحتمل تهاونًا ولا تسامحًا، كما في مواضع أخرى؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66].
ولما أمر بإنذار قومه وعشيرته الأقربين وقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تملِكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، لكنهم نفروا ورفضوا وقالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ﴾ [ص: 5]، أول سورة ص، وبدأت العداوة والمواجهة بسبب هذا الإعلان والإعلام: (لا إله إلا الله)!
[1] تفسير القرطبي.
[2] رواه الحاكم رقم (4884)، والحديث صحيح لغيره.
[3] رواه أحمد عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه؛ المسند 6/387.