الذي ما لم يقله أحد.
بسم الله الرحمن الرحيم
عليكَ أنْ تعلَمَ يقَيناً بِأنَّ المرءَ يومِيَّاً يخُوضُ بِدَاخلِهِ صِرَاعَاً عنيفاً
ضِدَّ ألفَ هَمٍّ وألفَ حُزنٍ وألفَ ضَعفٍ ليخرُجَ أمَامكَ بِكُلِّ هذا الثبَات.
-أنطون تشيخوف
متأخرا كعادتي دخلت اتعثر في حقيبتي الثقيلة المتكدسة بالاوراق والملفات وحاسبي المحمول المتهالك، أشعر بحزام الحقيبة ينخر كتفي الايسر اشد الحقيبة بيدي اليمنى و أثبتها إلى جانبي، أتنفس بعمق او بالأحرى ألتقط أنفاسي المتلاحقة، ما أن لمحني الموظف الزميل والأعلى مني في ترتيب الوظيفي ابتسمت له ابتسامة بلهاء فيها من السذاجة الكثير شعرت بإتهام صارخ في نظراته، اسمع صوتها تحدثني عيناه..
"تأخرت كعادتك ايها الكسول المهمل ! ما الذي أخرك هذه المرة؟ هل تعثرت في خيبتك الجلية، أم واجهتك نسور حظك السيء ونهشت لحمك المتعفن ..أجبني الان ..هيا أجبني؟"
شعرت بالكلمات تخترق صدري مرارا وتكرارا تنهش ثقتي بنفسي وتقديري لذاتي، تصبب جبيني عرقا وجف حلقي وتشنجت عضلات يدي المتشبثة بحزام الحقيبة وكأنه حبل مشنقة يلف قلبي،
غادرت سريعا واتجهت نحو مكتبي باشرت مهامي المتراكمة يمر زميل لي ينظر الي من فوق الحاجز خلف شاشة حاسبي، نظرات مربكة سمعتها..
" أيها المسوف سننعم جميعا براحة آخر الاسبوع وانت ستبقى هنا لتتعفن في هذا المكتب القذر"
كان الهواء يغادر صدري متقطعا له وقع حارق لاهب على حنجرتي شعرت بكتلة تنتصف حلقي* تمنعني من الحديث من الرد من حتى ان ازدرئ الريقي الجاف
غادرت لأحضر لي كوبا من الماء، عند عودتي رأيت الموظفة المشرفة علي تقف عند مكتبي تنظر لعملي المنجز وفي تعجب رفعت بنظرها تجاهي..سمعت نظراتها تقول لي..
"متى ستتمكن أيها الاخرق البطيء من فهم العمل الموكل إليك، كم مرة علي أن اشرح لك سير العمل، ما انت إلا حشرة بغيضة أو سحقها بقاع حذائي حتى تتلاشى من الوجود"
ارتعد جسدي وانا احاول الجلوس في الكرسي شعرت وكأن إنهياري وشيك رفعت نظارتي بطرف اصبعي عبثت بشعري ليغطي نصف وجهي باشرت العمل مجددا لساعات كنت اسمع الهمهمات من خلال نظراتهم
"هذا الحقير وجوده مثل عدمه" " لا اعلم كيف تم توظيفه هنا" "لابد أنه مصاب بتخلف عقلي" ..
انتهى وقت دوامي واستمريت لساعتين اضافييتين حتى أعوض تأخيري الصباحي، كان الجميع قد غادر ولم يبقى في المكان أحد، أثناء خروجي رأيت ذات الموظف نظر إلي وسمعتها من جديد..
"أرجو ان تهلك وتختفي قبل الغد حتى لا ارى وجهك الكئيب مجددا ما أنت الا عالة قبيحة عدمك افضل من وجودك"
اتجهت لأقرب مطعم لمنزلي طلبت شطيرة وانتظرتها طويلا حملتها بين يدي وضعتها في فمي وقضمت نصف قضمة كل تلك الكلمات تتردد بداخلي مرة بعد مرة، مضغت الطعام على مهل بفقدان شهية وشعور بالغثيان وكأن تلك الكلمات تملئ جسدي ولا مكان لشيء آخر اضافي، تركت الشطيرة في منتصفها دفعت الحساب وهممت بالمغادرة سمعت النادل وهو يلاحقني بنظراته
"يالك من جاحد للنعمة متبطر اللعنة على أمثالك من الناس لا يستحقون إلا المعاناة* والألم حتى يستشعروا نعمة مالديهم"
اتمنى ان اعود لمنزلي دون ان أرى احد في الطريق اريد ان يختفي الجميع او اختفي أنا.. اختفي عن اعينهم أن ادأصبح خفيا لا أحد يراني وينظر إلي كل تلك الكلمات نهشتني ونالت مني عزيمتي ورغبتي في الحياة أريد ان اغادر عالمهم المرئي أريد ان ارحل لعالم خفي لا يراني احد أتجول دون كلمات قاسية اسمعها ممن هب ودب أنا منهك قلبي يرتجف أشعر به يخفق وكأنني اجره من خلفي نظرت لصدري عدة مرات حتى أتاكد ان قلبي مازال في مكانه وليس متدليا من فوهة عميقة اشعر بها لكنني لا أراها
وصلت عتبة باب منزلي وضعت يدي على المقبض لاديره ثم تذكرت ان والداي من خلف هذا الباب لن تكون كلمات نظراتهم رحيمة ابدا ستنهش ما بقي لدي من تحمل ستنال من إرادتي الضئيلة في الحياة، اتكئت على الباب وسمحت لجسدي ان ينهار ببطئ على عتبته، أخرجت هاتفي دونت كل تلك الكلمات التي سمعتها كتبت كل نظرة واجهتها؛ أشعر أنني* منهكا و منهارا تحت تأثير ألم حارق ينال من قلبي ويفتته ويمتد إلى صدري ثم كتفي ورئتاي..ورأسي أشعر بالدوار أتكئ به على الباب كتبت الكلمات بصعوبة رأيت الهاتف ينسل من بين يدي التي فقدت القدرة على الحركة تحول المكان امامي لظلام دامس.
(١)
"كان شابا يافعا لقد رأيته بالأمس مرهقا لاهثا يحمل حقيبته على كتفه بدت ثقيلة جدا على كتفه أردت أن اقول له ان يخفف من الحمل حتى لا يرهق نفسه لكنني اكتفيت بالصمت..في كل مرة كانت تتقابل نظراتنا كان يتصبب عرقا ويرتبك ارتباكا عظيما رغم انني لم احادثه مرة في حياتي.!"
(٢)
" كان ارهاقه بالامس واضحا انكب على العمل وكأنه يرغب بانهائه في جلسة واحدة لقد كان يعمل بسرعة ووتيرة عالية رغبت في ان اقول له الافضل أن يعود للمنزل ويرتاح..لكنني فضلت الصمت بعدما رأيته يتحاشى النظر إلي.."
(٣)
" كنت مذهولة من سرعة انجازه في العمل اثار اعجابي وبشدة فكرت ان علي مكافأته فقد انجز عمل ثلاثة اشخاص في وقت واحد كان موظفا مجتهدا يعتمد عليه رغبت في ان اقول له ذلك لكنني آثرت الصمت بعدما رأيت ان مزاجه ليس ملائما للكلام.."
(٤)
"بدا محطما لم يتناول إلا لقمة صغيرة من شطيرته دفع بقشيشا سخيا جدا أردت أن اقول له انه سيكون بخير و أن كل شيء سيمضي ولكن خشيت ان اكون متطفلا لذا..لم أقل له شيئا"
تمت
**************************************************