حقائق عن سيرة حياة نوري السعيد باشا
نوري السعيد كان يمتلك نفوذاً سياسياً قوياً لكنه لا يملك عقاراً واحداً او مزرعه....
الانسان الوطني ورجل السايسة كيف يعمل كل منهما؟
لقد عرف الباحثون والمهتمون بالدراسات الاجتماعية الانسان الوطني بأنه من يضحي بحياته وماله في سبيل الدفاع عن عقيدته التي يرى فيها خدمة لوطنه وابناء شعبه وانه لا يحيد ولا يتزعزع عن المبادئ التي آمن بها وسعى من اجل تحقيقها مهما كلّفه ذلك من ثمن في الحياة.
واما رجل السياسة فانه لا يتقيد بما تمليه عليه قواعد واحكام المبادئ بقدر ما يجد فيها من تحقيق لطموحه الشخصي ورغبات نفسه وبالمقدار الذي ترتبط فيها تلك المبادئ بـ(شؤونه ومصلحته الشخصية) التي يضعها فوق كل اعتبار.
ومن هذا المنطلق نجد ان صداقة ومعاداة الانسان الوطني للاخرين من انظمة حكم واشخاص انما تكون لديه بمقدار ما يتحقق لمصلحة الوطن العليا دون الاعتبارات الشخصية الاخرى مهما كان في تلك الاعتبارات الشخصية من ملذات الحياة ورفاهية العيش.
ولهذا نجد ان صداقات وعلاقات رجل السياسة فانها تختلف اختلافاً اساسياً بالنسبة لما يؤمن به الانسان الوطني وما يعمل به رجل السياسة وقد كان في العهد الملكي احد رجال السياسة المعروفين والذي ترك بصماته في تلك الظروف السياسية التي عاصرها لسنين عديدة والتي نتجت عن مسيرته السياسية اثار خطيرة في هذه البلاد انه السياسي الشهير.. نوري السعيد.
لقد اختلفت الوقائق التاريخية في معرفة الاصل الذي ينتسب اليه نوري السعيد كما اختلفت ايضاً في تحديد مكان وتاريخ ولادته غير ان المعروف لدينا انه كان الابن الوحيد لموظف يعمل في الاوقاف محاسباً في العهد التركي في بغداد الذي يدعى سعيد صالح طه (الذي رزق بنوري وبأربع بنات) من السيدة فاطمة عبد الرزاق التي ينتسب والدها الى عشيرة (البو مفرج في بغداد).
ولد نوري السعيد في محلة (تبة الكرد) بالقرب من ساحة الميدان وذلك بحدود سنة 1887 على الارجح واما بخصوص نسبه فانه كان شخصياً لا يعتد بذلك بقدر اعتزازه بالمنطقة والمحلة التي ولد فيها وقد وصف من قبل احد المطّلعين: (بأنه كردي المولد وتركي النشأة والثقافة وعراقي المهنة والعمل).
اما بالنسبة لعمل اجداده (وهما صالح وطه) فقد قيل عنهما انهما كانا من خطباء جامع الاحمدية في محلة الميدان ايضاً
يرتبط نوري السعيد بجعفر العسكري برابطة الصداقة عندما كانا في الدراسة في اسطنبول كما تربطهما رابطة المصاهرة حيث تزوج كل منهما بشقيقه الاخر واما علاقته بياسين الهاشمي فقد كان ياسين ابناً لمختار المحلة التي ولد فيها نوري بالاضافة الى انهما عملا سوية في الشام عندما كان فيصل ملكاً هناك.
لقد كان نوري انساناً محباً للنكتة والمداعبة بينه وبين اصدقائه وقد كان من المولعين بسماع الاغاني العراقية وخاصة (المقامات العراقية) التي كان من عشاقها بشكل غريب منذ بداية شبابه وحتى ايام حياته الاخيرة وقد كان يقصد دار الاذاعة ليجلس في احدى الغرف ليلاً ليتذوق في استماعه لقسم من قراء تلك المقامات وقد عرف عنه انه يتعاطى شرب الخمرة منذ ايام دراسته في اسطنبول.
نوري السعيد وابن كنو في سوق الامانة
لقد كان لنوري عدد من الاصدقاء الذين كان من بينهم بائع الفواكه المعروف في سوق الاخمانة بـ(أبن كنو) في المنطقة المقابلة حالياً لتمثال الرصافي في شارع الرشيد وقد كان نوري يذهب شخصياً الى ابن كنو حيث يجلس هناك مستمعاً منه الى آخر (النكات) التي يتداولها عنه ابناء العراق برحابة صدر وانشراح ثم يقوم بعد ذلك باختيار الفواكه المعروضة امامه بعد ان يدفع له الثمن عن طيبة خاطر.
حياة نوري السعيد :
لقد عاصر نوري السعيد تأسيس ونشأة الحكم الملكي في العراق منذ بداياته وحتى اخر يوم من حياته وهو 15 تموز 1958 فقد نشأ نوري شخصاً عصامياً استطاع من بناء شخصيته بنفسه وقد ساعده (القدر) على ذلك البناء كما كان شجاعاً ومقامراً الى ابعد الحدود وبذلك استطاع ان يشق طريقه في الحياة حيث عرف كيف يستغل الظروف ويسخرها لمصلحته وخدمة اغراضه، ويعتبر نوري من المؤمنين بالنظرية الميكافيلية التي تقول بأن الغاية تبرر الواسطة وحيث انه كان من السياسيين فقد اختار الطريق الذي يرى فيه ما يحقق له اهدافه ورغباته الشخصية غير ان الكثيرين من الباحثين والدارسين لمسيرته في الحياة قد لاحظوا عليه انه يرى ان الدول الكبرى هي التي تقرر مصير الدول الصغرى وانه ازاء هذه النظرية يتحتم على العراق الاعتماد على احدى الدول الكبرى والتي لم يجد غير الحكومة البريطانية حليفاً للعراق والاستناد في سياسته عليها مهما كانت الظروف التي يمر بها العراق دون الالتفات الى تطلعات الشعب العراقي في هذا الخصوص.
ولم يكن نوري السعيد مختلفاً في آرائه تلك عن بقية رجال السياسة في العراق غير انه كان اكثر منهم صراحة وشجاعة في التعبير عما كان يعتقده ويعمل من اجله بهذا الاطار وتلك الصورة التي تتلخص عنده دائماً وابداً بضرورة المحافظة على العلاقة العراقية-البريطانية بأي ثمن كان حيث كان يردد دائماً ان العراق لا يستطيع بمفرده الوقوف ازاء المخاطر التي تتعرض لها منطقة الشرق الاوسط.. لقد كانت هذه النظرية التي مارسها وعمل من اجلها نوري طيلة حياته السياسية منذ عام 1921 وحتى يوم 15 تموز 1958 يوم مقتله.
لقد وصف البعض من رجال السياسة نوري السعيد بأنه يعتبر الحاكم الفعلي والمطلقة يداه بالنسبة لسياسة الحكم في العراق سواء كان مشتركاً فعلاً في الوزارة او خارج نطاقها بسبب ما يتمتع به من نفوذ مطلق على معظم الوزراء ورؤساء الوزارات ورغم هذا النفوذ المطلق لنوري السعيد فانه لم يمتلك مزرعة ولا عقاراً مع العلم انه كان بإمكانه الحصول على تلك المغريات ببساطة متناهية.
لقد بنيت لنوري السعيد (داران) الاولى كانت في الوزيرية وتقع مجاورة لدار ياسين الهاشمي والمشغولة حالياً من قبل الفنون الجميلة في شارع ابي طالب مقابل عمارة شذى والدار الثانية في كرادة مريم بالقرب من بناية القصر الجمهوري وعلى نهر دجلة اما الدار الاولى فكانت ارضها اميرية وتم تشييدها بقرض من وزارة المالية ولفائدة الاوقاف واما الدار الثانية فان الشركة التي قامت ببناء المجلس الوطني فقد تحملت نفقاتها التي اضيفت على التكاليف لبناية المجلس المذكور ايضاً.
لقد سكن نوري السعيد ولفترة طويلة في دار ولده صباح الذي كان يشغل احدى الدور العائدة لمديرية السكك في الصالحة. لقد كان نوري السعيد يعتبر نفسه الجندي والحارس لهذه البلاد والتي يرى انه من الواجب عليها تأمين مسكنه واحتياجاته الاخرى التي تتطلبها مكانته في المجتمع.
لقد تم جرد ممتلكات واموال رجال العهد المباد (العهد الملكي) وقد تم جرد ممتلكات نوري السعيد فلم يتم العثور له على اي رصيد من المال داخل العراق ولا خارجه.
مصير زوجة نوري السعيد السيدة نعيمة العسكري
تعتبر السيدة نعيمة العسكري (ام صباح) من السيدات العراقيات ذات المكانة المرموقة في ذلك الوقت فهي شقيقة جعفر العسكري وزير الدفاع في عدة وزارات وزوجة نوري السعيد الذي عرف عنه بأنه كان بمثابة قطب الرحى في السياسة العراقية، وقد كانت هذه السيدة تقيم في لندن مع زوجة ابنها (صباح) حيث كانتا بانتظار وصول (نوري باشا السعيد) الى لندن في يوم 14 تموز 1958 وقد اعدتا وجبة العشاء البغدادي لذلك الرجل الذي كان معتداً بنفسه حيث يقول (ان من يقتلني لم تلده امه بعد) كما يردد في خطبه (دار السيد مأمونة) ان هذه الكلمات وغيرها كان يتفوه بها الباشا الكبير الذي جاوز السبعين من العمر ولم يكن ليعمل ان مرافقه الامين (وصفي طاهر) هو الذي سيقود سرية الجنود المكلفة بالقاء القبض عليه (حياً او ميتاً)!!.
غير ان السيدة عصمت زوجة صباح قد علمت بما حدث في بغداد واستطاعت من تعطيل جهاز الراديو دون علم عمتها حتى لا تصاب بصدمة من جراء ما حدث في بغداد وقد تم ابلاغها خلال فترات متباعدة بشأن ذلك التي قضت بقية ايام حياتها هناك والتي تعرضت خلال واثناء تلك الاقامة الى الفقر الشديد والحاجة الماسة لتسديد متطلبات حياة معيشتها اليومية من نفقات.. حيث لم يحن عليها احد ولم يساعدها احد من اصحاب المصالح وطلاب الكراسي الذين كانوا يركضون وراء نوري السعيد وقد روت الاحداث ان السيدة المذكرة -قرينة الباشا نوري السعيد- قد باعت جميع ما عندها من حاجات كانت معها ولم يبق عندها غير ساعة ثمينة لزوجها وقد اشتد عليها المرض والفقر وذلك قبيل وفاتها بأيام فقد ارسلت بيد احد الدلالين اليهود الذي كان من اصل عراقي تلك الساعة الثمينة ليبيعها لأحد الاغنياء من اصدقاء زوجها المعروفين والمقيمين آنذاك في لندن وقد امتنع ذلك الثري عن شراء الساعة المذكورة ولم يقم حتى بإرسال مبلغ ولو كان بسيطاً لها رغم علمه بحالة التي كانت سكرات الموت تنتابها وقد بقيت الساعة معروضة عند هذا الدلال اليهودي في لندن وبعد رجوعه اخبر انها قد فارقت الحياة لقد قام هذا الدلال اليهودي من اصل عراقي ليتبرع عن طيبة نفس وكرم بجميع مصاريف الدفن ونفقاته:اللهم لا شماته.. اللهم لا شماته..
الملك غازي بين الاحساس الوطني والعمل السياسي
لقد نصّب الاتراك الشريف حسين بن علي شريف مكة اميراً على الحجاز والذي يرجع في نسبه الى الامام الحسن بن علي بن ابي طالب عليهما السلام وكانوا قد طلبوا من الشريف حسين اخماد الثورة التي قام بها محمد بن علي الادريسي في منطقة عسير والذي امر ابنه فيصل لقيادة الحملة لإخماد تلك الثورة وبتاريخ 1912/3/21 بشرت عائلة الشريف حسني بميلاد طفل لفيصل بن الحسين والذي كان قائداً للحملة فاطلق على هذا الوليد اسم (غازي) تيمناً بغزوة والده لإخماد تلك الثورة.
وقد عاش غازي فترة من حياته برعاية جده وذلك لانشغال والده في قضايا الثورة العربية التي قام بها والده ضد الحكم التركي بالاضافة الى سفره الى اوروبا للدفاع عن حقوق البلاد العربية وخاصة بعدما قام الانتداب بتقسيم تلك البلاد حسب معاهدة سايكس- بيكو المعروفة.
وفي الحجاز تعلم غازي شيئاً من مبادئ القراءة والكتابة وحفظ بعض الايات من القرآن الكريم اضافة الى تعلم اللغة التركية التي كانت لغة الدولة الرسمية بالاضافة الى المبادئ التي تعز بها القبائل العربية والتي يعتبرونها من مظاهر الشجاعة والرجولة وخاصة عند تلك الاسر المعروفة آنذاك من فروسية ورماية يعتزون ويفخرون بها.
اولاد الشريف حسين بن علي
لقد كان للشريف حسين بن علي اربعة اولاد وهم:
1- علي-والد عبد الاله.
2- فيصل- والد غازي.
3- عبد الله- والد طلال ونايف.
لقد كان هؤلاء الاخوة الثلاثة من ام عربية واحدة ومن اقارب الشريف حسين بن علي.
4- زيد- والد رعد.. لقد كان زيد الابن الوحيد الذي كانت امه من اصل تركي.
كان الحلفاء قد وعدوا الشريف حسين بن علي قبيل الحرب العالمية الاولى واثنائها بحق البلاد العربية في الاستقلال وتقرير المصير وقد اعلن الشريف حسين الثورة على الاتراك وبعد انتهاء الحرب المذكورة فقد نكث الحلفاء وعودهم التي اعطوها للشريف حسين بشأن استقلال البلاد العربية وتقرير مصيرها بيد ابنائها.
غير ان قيام الثورة العربية عام 1920 قد جعل الانكليز يفكرون في اختيار فيصل ليكون ملكاً على العراق والذي تم تتويجه بتاريخ 23 آب 1921.
وبعد ذلك طلب الملك فيصل من والده ارسال عائلته التي وصلت الى بغداد بتاريخ 1924/10/5 وعندها كان غازي قد بلغ الثانية عشر من عمره.. لقد شاهد الملك فيصل ابنه الوحيد (غازي) بعد تلك المدة من الفراق فأمتلأ قلبه فرحاً وسعادة بذلك وبعد ايام اعد فيصل عدداً من خيرة الاساتذة والمختصين لتدريس غازي وتعليمه كما قرر بعد ذلك ارساله الى انكلترا للدراسة في مدارسها غير ان غازي لم يكن مرتاحاً نفسياً بالنسبة لما عليه الحياة في انكلترا فقرر العودة الى العراق وعند عودته قرر والده ادخاله في تلك المدرسة واصبح غازي موضع احترام مدرسيه وزملائه من الطلاب الذين تعرف عليهم اثناء دراسته في هذه المدرسة والذين كانوا يعتزون بصداقته وطيبة اخلاقه.. وقد تخرج من تلك المدرسة بعد اكمال الدراسة فيها برتبة ملازم ثان خيال.
وفاة الملك فيصل الاول واعتلاء غازي العرش
لقد وجد غازي نفسه وجهاً لوجه مع الحياة التي اصبح فيها ملكاً على عرش العراق فماذا يفعل هذا الشاب الذي كان في الحادية والعشرين من العمر الممتلئ حماساً ووطنية ولم يتعرف بعد على فنون السياسة والاعيب السياسيين من امثال نوري السعيد وياسين الهاشمي اللذان يعتبران نفسيهما اكبر بكثير من هذا الشاب الصغير في هذه الحياة ان نوري السعيد وياسين الهاشمي كانا يمثلان الثقل الاساسي في الحياة السياسية في العراق فكيف سيتعاملان مع هذا الشاب الذي اصبح ملكاً على العراق؟.
لقد كان الانكليز يأملون من غازي ان يسير ويتبع سياسة والده الملك فيصل في المحافظة على العلاقات بينه وبين بريطانيا وقد اخذوا يحذون حذوه في وضع الثقة بحكومة من المتطرفين الوطنيين من العراقيين.
لقد كان فيصل يطلب من ولده غازي الاخذ بنصائح عمه الامير عبد الله امير شرق الاردن ولابد ان نشير في هذا المجال الى احدى نصائح الامير عبد الله بعد حضوره تشييع جنازة فيصل بتاريخ 1933/9/14 التي قال فيها:
ولدي الصغير.. انت حصلت على ثمار اتعاب والدك وعليك فقط اتباع خططه وخطواته.. لقد ترك لك ثروة من الرجال والاصدقاء المخلصين سيخدمونك ويقدمون لك الفائدة دائماً.. وعليك ان تعرف ان بريطانيا قد ساعدت جدك ضد الاتراك ووالدك في تأسيس العراق واخذت بيدي في تأسيس شرق الاردن.. انها حليفك وانا ادعوك دائماً ان تبحث عن نصيحة السفير البريطاني.
لقد تميزت الايام الاولى التي اعتلى فيها غازي العرش الى مجاراته للانكليز واخذ يعمل بنصائح السفير البريطاني في بغداد ويجتمع به بصورة مستمرة ويؤكد للسفير على ضرورة بقاء العلاقة بين العراق وبريطانيا بالشكل الذي كان يسودها الود والاحترام زمن المرحوم والده كما اخذ يستجيب للمطالب البريطانية التي تخدم المصالح البريطانية في الشرق الاوسط وفي العراق لقد تركت هذه الامور القناعة لدى السفير البريطاني ان غازي جاد في تقبله للنصائح البريطانية وابداء المشورة لهم وسوف يسير في المستقبل سيرة حسنة في هذا الشأن وقد اصبحت افكار معظم الساسة الانكليز وهم يعتقدون بأن غازي سيكون حليفاً مخلصاً وصادقاً بصورة عامة وقد وصفه احد كبار اولئك الساسة:
(ان غازي تتوفر فيه شخصية الرجل القوي في الكلام الذيك عقلياً والذي يظهر ويتبين لمحدثيه انه اكبر بكثير من عمره وسنين حياته في تجاربه للحياة).
ان هذا الوصف الذي وصف به غازي من قبل احد كبار الساسة البريطانيين ليس سهلاً ولا يسيراً اطلاقه على احد الاشخاص من قبل سياسي كبير امتحن الايام وامتحنته الاقدار وخاصة في بريطانيا.
[هل كان سبب العداء بين غازي وياسين الهاشمي يعود الى عدم اقتران غازي بصغرى بنات الهاشمي (نعمت)؟].
لقد خيب غازي آراء الساسة العراقيين الكبار الذين كانوا يعتقدون ان هذا الشاب الذي لم يتجاوز الحادية والعشرين من العمر سيكون العوبة بأيديهم لأنه قليل الخبرة والحنكة السياسية غير انه وقف بصلابة وشجاعة امام اولئك الساسة فقد جعل من صلاحياته الدستورية واقعاً وحقيقة ملموسة بدلاً من كونها نظرية من النظريات العامة فقد انشغل كل واحد منهم بكيفية المحافظة على مكانته ومركزه السياسي في الحياة وقد اخذ كل واحد منهم يدس على الاخر ويتآمر على صاحبه للخلاص منه وابعاده عن مركز القوة والنفوذ في الدولة.
وقد كانت هناك فكرة بزواج غازي من (نعمت) وهي صغرى كريمات ياسين الهاشمي الذي وافق وبارك هذه الفكرة بكل ارتياح غير ان الاعيب السياسة قد اثارت نوري السعيد واتباعه (جعفر العسكري وناجي شوكت) والذين فسروا موافقة ياسين على هذا الزواج انما يُراد به جمع السلطة والنفوذ بيد رئيس الوزراء ياسين وشقيقه طه الهاشمي رئيس اركان الجيش فما كان من نوري واتباعه غير المسارعة الى الملك علي لطلب يد ابنته (عالية) لتكون زوجة للملك غازي وطالبين مساعدة الامير عبد الله امير شرقي الاردن على ذلك وناشرين بين الناس انه لا يحق للملك الزواج من بنات الشعب الذي يحكمه وغير ذلك من هذه الاقوال.
لقد فرق نوري السعيد وبطريقة المكر والخداع ليمنع زواج غازي من بنت ياسين الهاشمي وهكذا تمت خطوبة الاميرة عالية بنت الملك علي الذي تنازل عن العرش في الحجاز والتجأ الى اخيه فيصل في العراق مع عائلته وابنه عبد الإله الذي اصبح فيما بعد وصياً على (فيصل الثاني) ابن شقيقته.
بهذه الوسيلة وبتلك الطريقة (من المكر والخداع) استطاع نوري السعيد تهديم كل الامال التي بناها ياسين الهاشمي لغرض احتواء الملك غازي الى جنبه لو تم زواج كريمته (نعمت). غير ان الامر المؤسف في هذا الباب ان ينقلب الود الى الكراهية والتآمر بين ياسين الهاشمي وغازي بفضل دسائس ومؤامرات نوري السعيد التي احسن صنعها واثارتها بين الاثنين وكأنه بعيد عن تلك الامور.
لقد كان نوري السعيد يثير تلك الامور في اوقاتها وظروفها ويختار تلك الاوقات والظروف بدقة تامة واخذ يتظاهر امام غازي بأن احترامه لوالده الملك فيصل يجعل منه جندياً مخلصاً وصادقاً واميناً على مصلحة العرش العليا كما اخذ يبذر من خلال هذه الاقوال كلما يؤدي الى النفرة والعداوة بين غازي وياسين وقد كان يرسل الى ياسين من اعوانه من يحبب له نوري السعيد وانه هو الصديق المخلص له في جميع الامور وان الملك غير مرتاح من ياسين ويزرع العداء بين الاثنين بهذه الطرق وبغيرها من طرق المكر والخداع.
رجال السياسة واللعب بالنار :
يجد فريق من الساسة ان اللعب بالنار وسيلة من وسائل اللهو والتسلية ولا يلتفت هذا الفريق الى القول الذي يردده العقلاء (اياك واللعب بالنار فقد يمتد شرارها وليهيبها اليك ليحرقك) علماً بأن المقصود بالنار انما جاء من باب التورية وذلك بالنسبة للشخص الذي يقوم بأعمال قد تؤدي به الى المهالك والموت.
لقد ظهر فريق من العسكريين على مسرح الاحداث في العراق وذلك في سنة 1936 والذين كان منهم بكر صدقي الذي قام بانقلاب عسكري في تلك السنة وقد عرف بأسمه.
ينتمي هذا الضابط في الاصل الى قرية تقع جنوب تركيا وقيل في كركوك وتدعى (عسكر) واليها ينتمي قسم آخر من ضباط الجيش ايضاً والذين منهم جعفر العسكري.
لقد تدرج بكر صدقي الذي كان من اعوان ياسين الهاشمي وانصاره حيث كرمه ومنحه رتبة فريق والتي كان القليل جداً من ضباط الجيش من يحمل تلك الرتبة في ذلك الوقت كما سمح له ياسين بالسفر الى اوروبا مرتين وقد تحملت الحكومة العراقية نفقات سفره كما اعطى مكافآت مالية اخرى غير ذلك.. ولم يتصور ياسين الهاشمي ولا وزير دفاعه جعفر العسكري ان بكر صدقي سيقوم بانقلاب عسكري ضدهم والانتقام منهم ونظراً لسفر رئيس اركان الجيش (طه الهاشمي شقيق ياسين) فقد اصبح بكر صدقي وكيلاً لرئيس اركان الجيش والذي استغل موقعه في هذا المنصب بعد فترة ليقوم بانقلابه مستغلاً بذلك (اعمال ياسين بمضايقته للملك غازي ومتخذاً من نية ياسين لخلع غازي واعلانه النظام الجمهوري في العراق وتنصيب نفسه رئيساً للجمهورية) وخاصة بعد حادث الاميرة (عزة شقيقة الملك غازي).
لقد كان للأحداث التي قام بها مصطفى كمال في تركيا ورضا بهلوي في ايران وهتلر في المانيا بعد سنة 1931 فقد كان لجميع تلك الاحداث الاثار في مخيلة وتفكير ياسين الهاشمي لاعلان النظام الجمهوري وخلع غازي وابعاده عن العراق او قتله للتخلص منه بأي ثمن كان وخاصة بعدما تمت خطوبة الملك غازي من الاميرة عالية بنت عمه الملك علي وذلك حسبما فسر وعلل هذا الموضوع الكثير من الباحثين والمطّلعين على الخفايا السياسية التي كانت اثارها تدور من خلف الكواليس ان اخبار عزل الملك واعلان الجمهورية في العراق قد اصبحت منتشرة بين الاوساط المختلفة وان تحقيق ذلك مرهون بعودة طه الهاشمي -رئيس اركان الجيش- وشقيق ياسين من الخارج الى العراق والقضية تعتبر مسألة ايام فقط.
لقد اختار بكر صدقي هذا الوقت واتصل بالملك غازي وابلغه بما يدور حوله وانه سيقوم بانقلاب عسكري ضد ياسين وجماعته وانه قد اتصل (بجماعة الاهالي حكمت سليمان وكامل الجادرجي وجعفر ابو التمن وانصارهم) الذين ايدوا فكرته وسيتم التنسيق بينه وبينهم من خلال قيام الطائرات العسكرية بالقاء المناشير على سكان بغداد لتوضيح اسباب الانقلاب واهدافه وازاء ذلك اصبح غازي بين امرين لا ثالث لهما اما القبول بالتنازل عن العرش ومغادرة العراق حسب الخطة التي يريد ياسين تنفيذها او تأييده لحركة بكر صدقي ليتخلص من ياسين واعوانه وقد اعد غازي الطائرة الخاصة له لنقله الى عمان في حالة فشل الانقلاب خاصة وان الانكليز كانوا يرغبون بالاطاحة بالنظام الملكي والتخلص من الملك غازي لاسباب كثيرة.
لقد امر بكر صدقي قطعات الجيش التي كانت في جلولاء بالتوجه الى بغداد كما ارسل رسالة موقعة منه ومن الفريق عبد اللطيف نوري يطلبان فيها من الملك اقالة الوزارة وتكليف حكمت سليمان بتشكيل الوزارة بدً من ياسين الهاشمي وقد وصلت قطعات الجيش التي امرها بكر صدقي بالقرب من (خان بني سعد) وفي نقطة تسمى (كاسل بوست) اي قصر البريد حيث توجه اليها وزير الدفاع في وزارة الهاشمي جعفر العسكري الذي اراد افشال المخطط الذي قام به بكر صدقي غير ان الضابط اسماعيل توحله قد قابل جعفر العسكري في الطريق المذكور واخبره بأن بكر صدقي ينتره خلف التلال التي تقع على جانب الطريق وقد تم استدراج جعفر العسكري بمفرده خلف التلال المذكورة حيث امر بكر صدقي اعوانه بقتل وزير الدفاع جعفر العسكري عند ذلك ايقن ياسين الهاشمي ان مصيره سيكون كمصير وزير الدفاع جعفر العسكري فاضطر هو ورشيد عالي الكيلاني الى مغادرة العراق والسفر الى سوريا.
**************************************************