يحوي التراث تاريخنا ويشكل هويتنا ، ومن
خلاله نقدر على متابعة رموز موغلة في القدم والتشعب عبر ثقافات وحضارات ..
يشمل المعتقد
الشعبي مدى متنوعاً من الأفكار والإهتمامات : طرق الشفاء من الأمراض ، الرقى والتعاويذ
، كشف المستقبل ، الماورائيات ، السحر ، عالم الجن والأشباح ، الأعياد والموالد
الشعبية ، حفلات الزار ، زيارة المقامات وأضرحة الأولياء ، إضافة للأمثال الحكمية
، القصص ، الأناشيد ، والفنون التي تطال الجانبين الروحي والإعتقادي .
إن الكلام في
مقالتنا هذه ، سيطال معتقدات طالما قمنا بها ، دون أن ندري أصولها ، أو نهتم
بجذورها ، وفي ما يلي محاولة لتأريخ هذه الأصول ، دون أن تدّعي حيازتها لكامل
الحقيقة ، هذه الحقيقة العصيّة على الإمتلاك !
صيبة العين :
يعيد البعض صيبة العين إلى طاقات خاصة في بعض العيون (خصوصاً الزرقاء) ،
ومن هنا التسمية ، أي أن هناك شخصاً "يسمّى عائناً" ، ينظر إلى شيء أو
إنسان آخر "ويسمى معيوناً" فيصيبه في خراب أو مرض ، وبعض التحليلات
أثبتت "علمية" هذه الطاقة باعتبارها من نوع الكهرومغناطيسي !
لكن التدقيق
يعيدنا إلى حقبة الأساطير ، وخصوصاً إلى الثقافة السومرية في بلاد الرافدين ، حيث
تنوعت الآلهة وتعدّدت . إن الإله "إيا" (السومري/الأكادي) مشـهور
بقدرته على الإيحاء بالرقى والتعاويذ ، كما أنه إله مياه الأعماق والينابيع . وتسمية
"عين" إشارة إلى ينبوع المياه ، هي إشارة إلى هذا الإله تحديداً . ولا
أهمية هنا لتحريف اللفظ لكون الهمزة والعين تعتبران حرفاً واحداً في عدد من اللغات
السامية ، ومنها اللغة الأكادية التي كانت منتشرة في أرض كنعان في الألف الثاني
قبل الميلاد . وهذا يعني أن "أون" و"عيون" و"أيون"
و"عين" هي لفظ مختلف لإسم إله واحد هو "إيا" . من هنا ، تعود
تسمية "مرجعيون" و"مجدليون" . كما أن الإعتقاد الشعبي
"صيبة العين" يرتبط بهذا الإله ، وليس لكونها من جراء النظر !
إن ربطها بالإله "إيا" ، يشير بشكل
واضح ، إلى اعتبارها مرضاً يصيب الفرد من جراء السحر ، فلا ينفع علاجه إلا بالرقى
والتعاويذ . وهذا ما نراه عند معظم القبائل في عصرنا الحديث ، التي ما زال يؤمن
أفرادها بتأثير السحر الأسود ، وعلاجه بواسطة الكاهن/الشامان .
إن بقاء هذه الفكرة طبيعي ، إذ أن التطور
الطبي لم يصل ليميط اللثام عن كل أسباب الأمراض ، وخاصة في مجتمعنا ، فبقيت بعض الأمراض
مجهولة السبب ، كما أن العلاقة مع الطب الحديث ليست متماثلة للعلاقة مع الطب
الشعبي وعلاجاته ، مما دفع أهل المريض للإقتناع بوجود صيبة العين ، وبالتالي وجود
بدائل علاجية ، خاصة مع اختفاء أصل الفكرة "السومري" ، وارتباطها
بالثقافات التي حلّت لاحقاً في منطقة بلاد كنعان .
ومن الطرق لردّ وعلاج صيبة العين : التعاويذ ، الخرز الأزرق ، نضوة الحصان ، صب رصاصة
، الرقى ، ومن الرقى أقدم هذا المثال : ’’حوطك بالله من عين خلق
الله ، من عين أمك ومن عين أبوك ، ومن
عين عمتك ومن عين أختك ، ومن عين
الجيران ومن عين اللي حسدوك ، عين الصبي
فيها نبي ، عين الذكر فيها حجر ، وعين
الحسود فيها عود‘‘ .
رفيف العين :
والرفيف هو
تحرك جفن العين العلوي عدة مرات ، ويعتقد أن مثل هذا التحرك يؤشر إلى حضور شخص
عزيز وغائب على صاحب العين . إذ أن العين تعلم لأنها آداة الرؤيا ، وتوضع غالباً
قشة على الجفن لإبطال الرفيف . ومن الناس من يحددها بشكل مختلف حيث يعتبر أنه إذا رف جفن
العين اليمنى فإن هذا دلالة على خير ، أما إذا رفت العين اليسرى فدلالة السوء
والشر للشخص ! وهذا مرتبط بواقعة اليمين (اليُمن والخير والبركة) ، والشمال (الشؤم
والتشاؤم) ، وقد يرتبط بإيحاءات قرآنية ، حيث ينال يوم القيامة جنات النعيم أصحاب
اليمين .
الأذن :
إذا شعر الشخص بطنين مفاجئ
داخل الأذن اليمنى فهذا معناه أن آخرين يذكرونه بالخير ، وإذا كان الطنين بالأذن اليسرى
فإن آخرين يذكرونه بالسوء ، وهو كما أسلفت يرتبط بإيحاءات قرآنية حيث يهوي إلى
دركات الجحيم أصحاب المشئمة الذين يحملون كتابهم بيسارهم .
الغراب :
يعد
الناس الغراب طائر شؤم ، وجاء وصف الشخص المكروه في المثل الشعبي بالقول : ’’مثل
غراب البين‘‘ ، أي أنه دائم النق والعق والتشاؤم والسوداوية . وما إن تتم مشاهدة
الغراب حتى تتم الإستعاذة بالله خوفاً من المصائب القادمة .
في الميثولوجيا ، يرمز الغراب إلى الموت
والإنتهاء ، وفي الأساطير السلتية كان يرمز إلى إلهة الموت والدمار والحروب ، وكان
يطلق عليها إسم إلهة الشياطين والأشباح . كما ارتبط الغراب بالشعوذة والسحر
وتعويذات الموت . وإن كانت أساطير شعوب أمريكا الأصليين تشير إلى الغراب باعتباره
رمز الحكمة والتحوّل والتنوّر الذاتي .
وقصيدة "إدجار ألن بو" ’’الغراب‘‘ ،
خير مثال عن طبيعة الغراب وإيحاءاته المظلمة والباردة ، التي تثير القشعريرة في
جسد القارئ وأعصابه ..!
الكف :
من يحك يده اليمنى فإنه سوف يصافح
شخصاً عزيزاً عليه ، ومن يحك يده اليسرى فإنه سوف يقبض أموالاً . كما اختلف تأويلها أيضاً ، إذ يشير حك اليد اليمنى إلى
أن الشخص سيدفع نقوداً ، أما اليسرى فهو سيقبض أموالاً . وقد ترتبط بأن اليد التي
نصافح بها عادة هي اليد اليمنى ، وهذه العادة تشير إلى حالة السلام ، حيث تخلو من
السلاح !
البوم :
تشير بعض الأساطير
إلى أن البومة لم تكن طائراً من قبل ، بل كانت امرأة فقدت ولدها ، فراحت تبكي على
قبره فترة طويلة من الزمن ، وتنام عند أحجار القبر ، ومع مرور الزمن انقلبت إلى طائر
لا يخرج إلا في الليل ، ولا يسكن سوى الأماكن المهجورة !
يتشاءم الناس من البوم ، وعندما يسمعوه أو يشاهدوه
ييسملون ويتعوذون ويدعون الباري سبحانه أن يحفظهم من شروره .
وصحيح
أن البوم يرمز في ثقافات عديدة للحكمة ، والذكاء . كما تنسج قبائل أمريكا فوق مهد
صغيرها تعويذة تحوي ريش بومة لحماية الطفل من الأرواح الشريرة !
لكن هذا هناك ! هنا ، يشكل البوم رمزاً
للخراب ، ونعيقه يتشاءم منه الناس فلا يباشرون مخططاتهم ويلغون نزهاتهم ، إذ شكل
لهم نذيراً ، وكان لمستقبلهم مشيراً !
الجن :
يؤكد البعض أن سكب
الماء الحار في الطريق ليلاً دون طلب الإذن من الجن ، أو على الأقل ، دون البسملة ،
هي أعمال تدعو إلى الحذر والتشاؤم ولا تجلب الخير لمن يقوم بها ! لذا فإن التسمية
وذكر الله سبحانه وتعالى أثناء هذا العمل يقي الإنسان من الشر والسوء .
فالجن كائنات تسكن الليل ، والأطلال ،
والخرائب والمقابر ، وللّيل كما للجن أيضاً رموز عديدة قد نأتي على ذكرها في مقالات
قادمة .
الكبسة
:
وهي أن يقطع شخص ناضج فوق شخص لم يكتمل نموه ، مما يؤدي إلى "كبسه" أي
إلى توقف نموه وطوله ، وتقتضي المعالجة المرور فوقه من نفس الشخص بالإتجاه المعاكس
.
ويعتقد البعض أن الطفل الذي أصبح في سن المشي
، ثم يبدأ بالحبو فهذا يشير إلى أن ضيوفاً سوف يأتون للزيارة !
الدم :
إن الإيغال بالأبعاد المشكّلة
لهذا الرمز ، تحيلنا إلى أساطير الخلق للجنس البشري ، إذ عندما تتكلم قصة الخلق
البابلية عن خلق الإنسان ، نجده قد تم خلقه من دم إله هو الإله "كنغو" .
والدم هو ركن الحياة ، وهو القوة الحيوية ،
من هنا عادة شرب الدم البشري والحيواني ، وهي عادة يعتقد القائمون بها أنهم
يتمثلون بممارستها قوة الناس والحيوانات .
كما إن التضحيات الكبرى في أساس البناء ،
كانت تتم وفق دافع نفسي ، يعتبر البناء كالنسل ، امتداداً لوجود الإنسان ذاته ،
لكونه يمتد في الزمن مع امتداد نسله . ولذا فالتضحية في أساسه ، تجعله مرتبطاً
بعاطفة الإنسان ، ولنا أن نتصور مدى تمسك جماعة من الناس بمدينتهم ، عندما يعرفون
أن أسسها تقوم على جثة ابن رئيسهم ، فهي تصبح ذا بعد تراثي عاطفي مقدّس .
ولا بد من الإشارة ، إلى أن هذا التقليد لا
يزال متبعاً ، بوجه من وجوهه ، على الأقل ، من خلال ذبح الكبش ، وتسييل دمه على
أساسات المنزل .
كما يشير الدم ، إلى القوة ، الحياة ، الألم
، الموت . فهو يقدم لنا إذن ، رمزين ثنائيين ، القوة والضعف ، الحياة والموت .
الطحين :
عندما تضع المرأة الطحين في "اللكن"
المعد للعجين ، وتبدأ بعملية العجن ، يتطاير بعض العجين من بين يديها إلى الأرض ، فتعتقد
بأنه لا بد أن يأتيهم في هذا اليوم ضيف ، وذلك لأن عجينها تطاير ، وهو من نصيبه .
وذات المعتقد
، يدور حول اللحمة التي تدق على البلاطة ، التي تتطاير أجزاء منها ، فيتم الإعتقاد
أنه سيكون للضيوف نصيبٌ منها .
أخيراً ، سأقدم لائحة بأمور يتشاءم ويتفاءل
منها الإنسان ضمن ثقافتنا ، دون أن أقوم باستعراض جذورها ..
يتشاءم
الإنسان من :
-
مشاهدة قطيع ماعز صباحاً .
-
سكب الزيت على الأرض .
-
وقوع إناء زجاجي دون أن ينكسر .
-
صياح الدجاجة كالديك .
-
الضحك كثيراً .
-
كنس البيت أو كسر الإبريق بعد مغادرة عزيز من المنزل .
ويتفاءل من :
-
مشاهدة قطيع غنم صباحاً .
-
سكب القهوة على الأرض .
-
وقوع إناء زجاجي وتحطمه .
-
دخول الفراشة إلى المنزل مساءً .
-
سقوط براز الطير على شخص .
المصادر :
-
أنيس فريحة ، معجم
الألفاظ العامية .
-
جفري بارندر ، المعتقدات الدينية لدى
الشعوب .
-
راجي الأسمر ،
المعتقدات والخرافات الشعبية اللبنانية .
-
سامي ريحانا ،
موسوعة التراث القروي .
-
شوقي عبد الحكيم ،
موسوعة الفولكلور والأساطير العربية .
-
ماكس شابيرو و
رودا هندريكس ، معجم الأساطير .
-
محمد الجوهري ، علم الفولكلور (دراسة
المعتقدات الشعبية) .
-
ميرسيا إلياد ، تاريخ المعتقدات
والأفكار الدينية .
-
يوسف الحوراني ، البنية الذهنية
الحضارية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم
**************************************************