يتصور معظم القراء في العالم العربي أن محاكم التفتيش، هي المحاكم التي شُكلت في إسبانيا فقط بعد سقوط دولة الإسلام فيها، وكانت مثال الوحشية ، إذ قامت بصب ألوان العذاب على رؤوس من لم يتنصر من المسلمين واليهود، وأعدمت وأحرقت الآلاف منهم، وأنها استمرت بضع سنوات، أي حتى وصولهم إلى غايتهم، تنصير من لم يستطع الهروب، ولكن الحقيقة أن محاكم التفتيش لم تكن مقتصرة على إسبانيا، ولم تدم بضع سنوات، بل انتشرت في جميع دول أوروبا المسيحية، واستمرت مئات السنين، ولا تزال هذه المحكمة موجودة في الفاتيكان، ولكن تحت اسم آخر.
واعتمدت الكنيسة الأوروبية محاكم التفتيش أداة رهيبة لحفظ العقيدة المسيحية أمام الهراطقة والسحرة، زاعمة أنها حينما تحكم بالموت عليهم حرقاً في الأغلب فإنها تخلص أرواحهم من الشيطان، أي أنها في الحقيقة تحسن إليهم ، وترعى مصلحتهم في حياتهم الأخروية ، وتطهر أرواحهم من رجس الشيطان.
وقد قاست الشعوب الأوروبية ولمئات السنوات من هذا الظلم الصارخ ، ومات مئات الآلاف، فيما يؤكد بعض المؤرخين أن عدد الذين أُعدموا أو أحرقوا يبلغ حوالي مليونين من النساء والرجال والأطفال.
"بيان طورس".. خرافات كنسية :
وظل هاجس "الخوف من الشيطان"، ومحاولة اتخاذ التدابير ضد شروره... متحكماً في حياة الشعوب الأوروبية في القرون الوسطى، ففي عام 823م أصدر المجلس الكنسي الذي اجتمع في "طورس Tours" البيان الآتي: "على جميع القسس والرهبان ورجال الدين المسيحي أن يحذروا الشعوب المؤمنة بأن فنون السحر والتعاويذ لا تستطيع شفاء أي مرض، ولا علاج أي حيوان أعرج أو مشرف على الموت أو مريض، وأن المراهم والنباتات أيضاً لا تفيد.. فجميع هذه الأمور ليست إلا ألاعيب وأحابيل العدو المخادع القديم: الشيطان".
وفي إطار تلك المزاعم اعتُبر المرض عقاباً مرسلاً إلى الشخص الآثم، لذا قام مجمعان كنسيان عام 1139م وعام 1215م بمنع اشتغال رجال الدين المسيحي بالطب.
وكان بيان "طورس" إيذاناً ببدء عهد دام مئات السنوات من "صيد" مئات الآلاف من الرجال والنساء والشيوخ والشباب الأبرياء بتهمة السحر والشعوذة، تحت شعار تطهير أرواحهم من دنس الشيطان.
حرب الكنيسة والسحرة :
في بداية القرن الرابع عشر اكتسبت حرب رجال الكنيسة مع السحرة سرعة كبيرة.. حيث أصدر البابا (جين الثاني والعشرين) عام 1326م ما يأتي : "نشاهد مع الأسف العديد من الناس الذين لا علاقة لهم بالمسيحية سوى بالاسم وهم يتعرضون لمواضيع الموت ، ويساومون على جهنم، ويقدمون الأضحيات للشيطان ويعبدونه، ويقومون بعمل الخواتم والمرايا والقناني الزجاجية وأمثالها، ويحبسون فيها الجن بواسطة السحر، ويقومون بطرح الأسئلة عليهم، ويأخذون منهم الأجوبة.. ويستعينون بالجن من أجل تحقيق مآربهم الدنيئة، ويكونون عبيداً للشيطان من أجل أخس الغايات ، إن هذا الوباء يهدد حملان المسيح تهديداً متزايداً على مر الأيام".
وفي عام 1484م أصدر البابا "أنوسنت الثامن Innocent8 " والبابا ألكسندر بورجيا عام 1494م بياناً آخر، يشابه البيان السابق أكد ما جاء في البيان الأول..
ولكن من هو الساحر؟ وكيف يمكن التعرف عليه وتشخيصه؟ وكيف يحاكم؟ وما العقوبات التي توقع عليه؟... هذا ما سنتناوله.
في البدء كان كل ملك أو حاكم ولاية أو مقاطعة يقوم بنفسه بتعيين كل هذه الأمور، ولكن بعد أن قام" هنريش كرومر Heinrch Kramer وجاكوب سبرنكر Jacob Sprenger بكتابة كتاب (مطرقة الساحر Malleus Maleficarum) عام 1486 1487م، تناولا هذه الأمور بالتفصيل، وأصبح الكتاب المرجع الرسمي والقانوني لجميع المدعين العامين وقضاة المحاكم.
تعريف الساحر: وعرف هذا الكتاب الساحر حسب بأنه "الشخص الذي عقد مع الشيطان عقداً قام الشيطان بموجبه بمسح إشارات التعميد في جسده، ووضع إشارات شيطانية بدلاً منها".
ويعدد كتاب "Compendium Maleficarum لمؤلفه Guaccius المطبوع عام 1608م في مدينة ميلانو الإيطالية جرائم الساحر كما يلي:
1 - هو شخص أصبح عبداً للشيطان بعد توقيع اتفاقية معه.
2 - يقوم الساحر بتحقير العقيدة الكاثوليكية وإهانتها، ويتخلى عن المسيح وعن مريم ويتهرب من العبادة.
3 - يقوم الساحر بعبادة الشيطان ضمن مراسيم مستهجنة وفاضحة.
4 - يدعو الآخرين إلى مراسيم عبادة الشيطان.
5 - يتعمد من جديد ويبدل اسمه المسيحي باسم بذيء وفاضح.
6 ـ يعطي الشيطان قطعة من ملابسه كعلامة ارتباط به، ويتقبل الشيطان منه هذه القطعة ويخفيها عنده.
7 - يكرر عبادته للشيطان داخل دائرة يرسمها الشيطان له.
8 - يطلب من الشيطان مسح اسمه من كتاب المسيح، وتسجيله في الكتاب الأسود له (أي للشيطان).
9 - ينذر أضحية للشيطان.
10 - يحمل إشارة الشيطان.
وليس هناك من عقاب لكل هذه الجرائم الخطيرة سوى الحرق ، فهو وحده الذي يستطيع تطهير جسد وروح هذا الساحر!!.
يقول Nicolas Eymeric في كتابه Directorum Inquistorium المنشور في (عام 1478 1479م): "عندما يحرق مثل هذا المرتد، يكون الحرق في مصلحة الشعب الكاثوليكي وسلامة روحه.. أي لمصلحة المجتمع، ومصلحة المجتمع مقدمة على مصلحة هذا الساحر الملعون الذي يموت دون توبة".
وفي عام 1282م أصدر برلمان باريس القرار الآتي: "إن الرهبان هم المدعون العامون الوحيدون في المواضيع المتعلقة بالشيطان".
أما في عام 1390م أي بعد مائة عام تقريباً أصدر البرلمان نفسه قراراً آخر: "يجب إحالة موضوع تعيين وتشخيص السحرة ومحاكمتهم إلى مدعين عامين علمانيين".
أجل! تغيرت الجهة التي تقوم بالمحاكمة ، ولكن المتهمين لم يتغيروا.. كانوا من جميع فئات الشعب.. المنجمون، الأطباء الشعبيون، المجاذيب، المصابون بالهيستريا، الغجر، النساء اللائي أجهضن، ذوي العاهات والراقصات الشابات "كان الرقص يعد آنذاك إشارة إلى الارتباط مع الشيطان"... وغيرهم.
وفي هذا السياق حوكمت جان دارك "التي كانت تعد بطلة قومية للفرنسيين، وحاربت الإنجليز وانتصرت عليهم" بتهمة السحر وأحرقت!
وجاء عهد أصبح فيه حرق السحرة مفخرة بين الكاثوليك والبروتستانت، وموضوعاً للمنافسة بينهما، فكل طرف يقول إنه أحرق عدداً أكبر من السحرة من الطرف الآخر.
فقد أُحرق مئات الآلاف من الأبرياء والمظلومين والتعساء بتهمة السحر.
وعلى سبيل المثال؛ فقد قام شخص واحد اسمه Nicolas Remy وكان مدعياً عاماً، بحرق 900 متهم بالسحر في عشرة أعوام (1581-1591م).
وكان القرويون يُجبرون على الإخبار عن السحرة، حتى إن الكنائس وضعت صناديق لتلقي أسماء السحرة.
وفي القرن السادس عشر علقت الكنائس في ألمانيا الإعلان الآتي: "إننا نستلهم العون من الشعب المسيحي الذي يحمل لنا الحب الخالص، وذلك من أجل الحفاظ على صفاء العقيدة الكاثوليكية ووحدتها، وصيانتها من جميع أمراض الارتداد ، لذا نأمركم باسم الإيمان المقدس أن تخبرونا في ظرف 12 يوماً من معرفتكم أو من شككتم من كون أحدهم ساحراً ، فإن لم يرضخ من يعرف ساحراً لهذا الأمر، فليعلم أننا سنقوم بحرمانه كنسياً، وبعقوبات أخرى كذلك ، بينما ستنمحي ذنوب المخبر مدة ستة أشهر ، وسيدخل في حمايتنا".
علامات السحرة :
ولكن ما العلامات الدالة على الساحر؟
1 - الغنى الفجائي: مثل هذا الغنى لا يمكن أن يحدث إلا بمعونة الشيطان.
2 - تغيير المسكن بشكل متكرر: فالسحرة يرغبون في الخلوة، لذا يفتشون دائماً عن مكان هادئ.
3 - وجود علامات معينة في الجسم يفسر بأنها من صنع الشيطان.
والحقيقة أن الوعد بالجنة لمن يخبر عن السحرة دفع العديد من الناس إلى انتهاز هذه الفرصة الذهبية والسهلة للحصول على الجنة، والإخبار عمن يشكون بأنهم سحرة ، وتصوروا مدى الظلم الفادح الذي لحق بآلاف الأبرياء جراء تهم وظنون لا أساس لها.
كما لعبت النزاعات والعداوات الشخصية والعائلية، وتضارب المصالح والنزاعات حول الأراضي، أو حول الميراث دوراً مهماً في إرسال آلاف الأبرياء إلى الحرق فوق أكوام الحطب المشتعلة دون أن يرتكبوا ذنباً.
ولم يكن هناك من يستطيع حماية نفسه من مثل هذه التهمة، أو يضمن كونه بعيداً عنها.. لا الفقراء ولا الأغنياء ولا النبلاء ولا الرهبان ولا حتى المدعين العامين... كان الخطر محدقاً بالجميع، ولكن مع فرق واحد، هو أن الأغنياء والقريبين من السلطة كانوا يستطيعون الاستعانة بأمهر المحامين، ولا يعدمون من يشهد لصالحهم مقابل مبالغ معينة، كما كانوا يملكون من النفوذ ما يؤمن تبرئتهم في المحكمة ، لذا كان الفقراء هم الضحايا الرئيسين في نهاية المطاف.
يقول Gaule مؤلف كتاب Select cases of touching witches and witchcraft المنشور في لندن عام 1624م حول أنواع الأدلة المقدمة ضد المتهمين بمزاولة السحر بأنها على أنواع ثلاثة:
1 - الأدلة غير القاطعة: مثل وجود عاهة في العين، أو عدم استطاعته ذرف الدموع!
2 - الأدلة المحتملة: مثلاً أن يكون الشخص من نسل ساحر، أو مثل وجود إشارات يرونها مريبة في جسمه.
3 - الأدلة القاطعة: مثل شتم المقدسات، والاشتراك في الاجتماعات الليلية.
بالنسبة للشهود يجوز أن يشهد الرجال من كل الأعمار ، أما النساء فبين 12 عاماً فما فوق ، أما أولاد السحرة فيجوز أن يشهدوا في أي عمر ، فمثلاً إن شهد طفل عمره 5-6 سنوات قائلاً: "نعم!... لقد اشترك والدي (أو والدتي) مرة في حفلة عبادة الشيطان"... فتؤخذ هذه الشهادة وتعد دليلاً قاطعاً، ويحرق الوالد أو الوالدة!
ثم تطور الأمر حتى أصبح "صيد" السحرة والتعرف عليهم، مهنة مربحة يمتهنها بعضهم ويعيشون عليها، فمثلا قام ماثيو هوبكنس Matthew Hopkins وهو بريطاني بإرسال مائتي بريء إلى الحرق بتهمة السحر خلال عامين فقط (1644- 1646م).
تعذيب بزعم السحر:
بعد أن تثار الشكوك حول كون أحدهم ساحراً ، يتم الهجوم على بيته فجراً في العادة، ويقلب البيت رأساً على عقب للعثور على أي دليل.. يمكن أن يكون هذا الدليل تعويذة أو مرهماً أو دهناً ذا رائحة نفاذة أو تمثالاً صغيراً... إلخ.
ثم يساق المتهم مع هذه الأدلة إلى الاستجواب ، وقبل الاستجواب يتم تعريته تماماً، ثم يُطلب منه قراءة دعاء خاص.. فإذا لم يستطع قراءة الدعاء حتى النهاية قويت الشكوك حوله.
ثم يحبس لمدة 3-4 أيام في غرفة صغيرة مظلمة وعارية ، ثم تبدأ التجارب معه ، مثلاً يوزن المتهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن الشيطان يجعل حليفه خفيفاً ، ثم يبدؤون بتجربة النهر ، حيث يرمون المتهم في النهر فإن غرق فهذا دليل على براءته ويأسفون عليه.
أما إن طفا فوق الماء ولم يغرق فهذا دليل على أن الشيطان ساعده!! وتزداد الشكوك حوله...أي أن المتهم خاسر في الحالتين: إن غرق أو إن لم يغرق.
ثم يزال الشعر من كل جسده للبحث عن أي علامة شيطانية مسحت إشارة التعميد.. وهذه العلامة يمكن أن تكون ندبة أو مكاناً مرقطاً، أو بقعة غامقة اللون أو انتفاخاً...إلخ.
لأن مثل هذه العلامات دليل على أن الشيطان قبله من ذلك المكان!
وكان عدم القدرة على ذرف الدموع من أهم الأدلة ضد المتهم، وكانت المحكمة تعتقد أن المتهم يستطيع التظاهر بالبكاء والصراخ أو يقوم بترطيب عينيه بلعابه، ولكنه لا يستطيع ذرف الدموع، والتي تعد علامة التوبة.. كان المطلوب ذرف ثلاث قطرات من الدموع على الأقل!
لم تكن هناك فترة محددة لاستجواب المتهم وحبسه، فقد يستمر الحبس سنوات، حيث يوضع في حجرة مظلمة.
ولكي يحولوا دون زيارة الشيطان للمتهم والاتصال به جنسياً، كان المتهم يوضع تحت رقابة مستمرة.
كما كانوا يرسلون له أحياناً جاسوساً من قبل المحكمة لعله يحصل على اعتراف منه بالذنب.
رسالة من داخل جهنم :
ندرج هنا رسالة بعثها أحد المتهمين الأبرياء إلى ابنته واسمه Jean Junius وكان رئيس بلدية ، وتعرض لتهمة كيدية من قبل أحد خصومه عام 1628م قال فيها: "ابنتي العزيزة فارونيكا.. أسعدت مساءً ألف مرة ، لقد دخلت السجن وأنا بريء، وقاسيت ألوان التعذيب، وأنا أموت بريئاً؛ لأن كل من يدخل السجن لا بد أن يعترف بأنه ساحر، شاء ذلك أم أبى... وكل شخص هنا يتعرض للتعذيب حتى يضطر إلى الكذب وإلى الاعتراف بالسحر... لم أنكر الله أبداً طوال حياتي، ولن أنكره ، جاء الجلاد وربط يدي، ثم قيد أصابعي بالحديد ، غرقت أصابعي في الدماء ، وكما ترين من الرسالة لا أستطيع استعمال أصابعي بسهولة ، ثم ربطوا يدي وراء ظهري ، ثم رفعوني بالحبال إلى فوق... حسبت أن السماء قد هوت على رأسي ، رفعوني ثماني مرات وأنزلوني ثماني مرات.. أحسست بألم فظيع... كنت عارياً... وعندما قادني الجلاد إلى السجن قال لي: أتوسل إليك يا سيدي بحق الله أن تقول شيئاً، وأن تعترف بشيء حتى وإن لم يكن صحيحاً... اخترع شيئاً!...لأنك لن تستطيع تحمل ما ستتعرض له من ألوان التعذيب... وحتى لو تحملتها فلن تتخلص... لأن أنواع التعذيب ستتعاقب عليك إلى أن تعترف بأنك ساحر".
وماذا كان مصيره؟.. المصير المحتوم طبعاً! وهو الاضطرار أمام صنوف التعذيب الرهيبة إلى الاعتراف كذباً بأنه ساحر.. ثم أرسل إلى كومة الحطب وحرق.
هذا نموذج من هذه المحاكمات المضحكة المبكية، وهي محاكمة السيدة Michee Chauderon عام 1652م في مدينة جنيف ، وهي في الخمسين من عمرها ، واتهمت بأنها سحرت بنتاً اسمها Pernette Royaume وهي بنت سيدة تدعى Elizabeth Royaume وذلك بتسليط الجن عليها ، جرت المحاكمة في 4 مارس 1652م واستمرت شهراً واحداً، بدأت المحاكمة بسؤال:
- لماذا أنت هنا؟
- خضوعا للعدالة.
وتكرر السؤال نفسه، فكان الجواب:
- لأنني متهمة بالإساءة إلى ابنة السيدة إليزابيث.
- هل تعتقدين بأن الشيطان قد سيطر عليها؟
- هكذا قيل لي، ولكن لا دخل لي في هذا الأمر.
وفي 10 مارس قدم الأطباء تقريرهم، حول فحص هذه السيدة المتهمة، تضمن الفحص إدخال إبرة طويلة في أماكن مختلفة في جسمها، فدميت وشعرت بالألم من الإبرة، وكان هناك انتفاخ بحجم حبة العدس تحت ثديها الأيمن بثلاث أصابع ، فأدخل الأطباء فيه إبرة بطول الإصبع حتى نهايتها فلم تشعر بأي ألم.. مما دعاهم إلى الشك بأن هذه الإشارة أي الانتفاخ شيء غير اعتيادي، وتدعو إلى الريبة"..
ومع إن المتهمة أنكرت بأنها رأت الشيطان، إلا أنها أقرت بعد تعذيبها تعذيباً شديداً بأنها رأت شيئا ما... قالت بأنها قبل سنة تقريباً ًذهبت إلى غابة الإخوة وهي غابة في ضاحية مدينة جنيف وعند رجوعها كانت غاضبة قليلاً، ورأت ظلاً يمر بقربها وأنها قالت: "ليحفظني الرب".
فإن كانت هناك إشارة في جسدها فلا شك أن ذلك الظل هو الذي فعل هذا.
- ماذا قال لك ذلك الظل؟
- لم يكلمني.
- لماذا كنت غاضبة؟
- لا أذكر.
- هل كنت قد شاهدت ذلك الظل من قبل؟
- كلا.
- هل وهبت نفسك للشيطان؟
- كلا.
- وهل حاول ذلك معك؟
- كلا.
- هل كان الظل كبيرا؟
- كان صغيراً.
- ماذا قال لك ذلك الظل؟
- لا شيء.
- عندما رسم ذلك الظل إشارة في جسدك، هل أحسست به؟
- كلا.
- وهل أحسست عندما رسم الإشارة على مقعدك؟
- كلا.
وانتهت الجلسة فأرسلوها للتعذيب مرة أخرى، لأنها لم تقر بعدها بجرمها صراحة.
وعندما عادت كانت في حالة انهيار، لم تستطع إبداء أي مقاومة.
أعيدت عليها الأسئلة:
- لماذا كنت غاضبة؟
- أغضبتني امرأة.. ولكني لا أذكر الآن اسمها.
- كيف وهبت نفسك له؟
- قلت: وهبت لك نفسي.
- هل أشر على شفتك آنذاك؟
- نعم.
- هل حاول ذلك الروح الشرير حثك على اقتراف الشر بحق الآخرين؟
- كلا.
لم تكن أجوبتها هذه مرضية للمحكمة بشكل كاف ، لذا أرسلت للتعذيب مرة أخرى.
بعد أن لاقت الويل من التعذيب أعيدت إلى المحكمة مرة أخرى ، كانت مستعدة الآن لقبول أي شيء يرضي المحكمة.. أعيدت عليها الأسئلة:
- هل حاول ذلك الروح الشرير حثك على اقتراف الشر بحق الآخرين؟
- نعم.
- هل أمرك الشيطان بقتل شخص؟
- نعم! ولكنه لم يعين لي شخصاً.. حاول مرة أن يعطيني تفاحة ولكني لم آخذها.
التعذيب أشنع من الموت :
لم تكن هذه الأجوبة كافية في نظر المحكمة، ولكي تتحقق العدالة! يجب أن تكون الاعترافات صريحة وواضحة.. لذا أرسلت هذه المتهمة البائسة إلى التعذيب مرة أخرى.
ولم تتحمل أكثر فاعترفت على نفسها كذباً لكي تتخلص من التعذيب الذي هو أشنع من الموت بأنها أخذت من الشيطان تفاحتين أعطت إحداها إلى تلك البنت، والأخرى إلى امرأة أخرى.
وهكذا ثبتت عليها تهمة السحر وصدر القرار بإعدامها، حيث أعدمت في 6-4- 1652م ثم أحرق جسدها.
صور التعذيب :
كانت هناك طرق وحشية للتعذيب تقشعر من هولها الأبدان منها:
- ربط الشخص على دولاب وجره في اتجاهين متعاكسين حتى يتمزق جسده إن لم يعترف ويموت.
- ربط الأصابع بالحديد وكسرها.
- حرق الأصابع بجمرات النار.
- حبس المتهم عارياً في غرفة مفروشة بالجليد.
- وضع حديد بين الأظفر والأصبع، وجر الأظافر وقلعها.
- جميع أنواع التعذيب بالنار.
- الكوي بالحديد المحمر الساخن.
- حرق باطن القدم بالنار بعد تدهينها.
وقد أصبحت مهنة التعذيب ومهنة الجلاد مهنة رائجة ومربحة، وبدأ الجلادون يتفننون في ابتكار صور التعذيب ، كما كانوا لا يدفعون إيجار البيوت التي يسكنونها.
كما كانوا يبيعون أسنان وشعر ورماد الضحايا بأثمان جيدة، لأن الجماهير الجاهلة كانت تعتقد بأنها تشفي من الأمراض!!
الحرق يطهر روح الساحر:
بعد إتمام الاعتراف كان يأتي دور التنفيذ ، وكان يتم بالحرق عادة، حيث يوضع المتهم فوق أكوام الحطب ثم يتم إشعالها ، وكان الاعتقاد الكنسي السائد آنذاك أن "الحرق وحده هو الذي يطهر روح الساحر".
وكان التنفيذ يتم أمام الجمهور، وأحياناً يرتب احتفال بتلك المناسبة، وكانت البلدية تدفع مصاريف هذه الاحتفالات.
وكان الحرق على أنواع : النوع الغالب هو جمع كومة كبيرة من الحطب ثم شد وثاق المتهم بعمود خشبي ثم إشعال النار، (مثلما حدث في عملية إحراق جان دارك مثلاً).
وهناك طريقة أخرى أفظع، وهي طريقة الفرن، إذ كانوا يصنعون فرناً خاصاً من الطابوق، وفوق الفرن أربعة تماثيل كبيرة مجوفة يوضع المتهم داخل إحداها، ويشد وثاقه، ثم يوقد الفرن. وهكذا يموت المتهم حرقاً ولكن ببطء مما يزيد من عذابه وآلامه، ويشبع أيضاً الطبيعة السادية عند رجال الكنيسة ورجال المحكمة.
أو يوضع المتهم فوق عجلة دائرة، ويتم جره في اتجاهين متعاكسين حتى يتمزق جسد المتهم، أو يتم قطع رأسه بالفأس ، وكان هذا خاصاً بإعدام النبلاء فقط.
وإذا كانت المرأة المتهمة بالسحر حاملاً فلا يغير هذا من الأمر شيئاً، ولا يؤخر التنفيذ حتى تلد المرأة، بل ينفذ الحكم فيها فتموت الأم ويموت معها وليدها الذي لم تسمح له المحكمة بحق الحياة لأنه ابن لساحرة!
وبالنسبة لأبناء وبنات الساحر أو الساحرة فيقتلون أيضاً دون أن يكون لهم أي ذنب، ولعل هذا نابع من العقيدة الكنسية حول انتقال الخطيئة من الآباء إلى الأبناء ، ويكون قتلهم بقص شرايينهم حتى ولو كانوا صغاراً، ويستثنى من هذا المصير من شهد ضد والده أو والدته ، ولكنهم لا يعفون من العقاب تماماً بل ينفون من البلد.
ومن يدقق في تاريخ الغرب يعرف أنه تم حرق الآلاف من الأطفال والصغار بتهمة أن الشيطان دخل في علاقة جنسية معهم!
في أحيان كثيرة كانت قرية ما تفقد نصف سكانها بالإعدام حرقاً بتهمة السحر، ففي مقاطعة Neisse أحرق في تسع سنوات أكثر من ألف شخص بتهمة السحر بينهم أطفال بعمر 2-3 سنوات.
قصة أحدب نوتردام:
وقبل أن ننهي هذه المقالة نورد الوصف الذي كتبه الكاتب الفرنسي المشهور "فيكتور هيجو" في روايته الشهيرة "أحدب نوتردام" The Hunchback of Notre Dame التي جرت أحداثها في باريس عام 1482م حول محاكمة السحرة في باريس في ذلك العهد:
"شابة غجرية اسمها "أسميرالدا" اتهمت بأنها قتلت ضابطاً اسمه "فوبوس" تبين فيما بعد أنه لم يقتل بل جرح فقط ، وكان الجاني الحقيقي في تلك الحادثة كاهن الكنيسة المغرم بالغجرية، والذي كره الضابط لكون الغجرية تحبه، فأقدم على محاولة قتله بدافع الغيرة.. أي أن الشابة الغجرية كانت بريئة ، ولكن التهمة الأشنع الموجهة لها كانت بأنها تمارس السحر.
ففي نهاية الفصل 23 من الرواية يجري الحوار الآتي بين رئيس المحكمة والمتهمة:
- "هل تصرين على إنكار التهمة؟
- نعم أنكرها.
- كيف إذن تفسرين الوقائع التي تتهمك؟
- لقد أخبرتكم.. لا أعرف.. لا أعرف.. لا أعرف.. إنه الكاهن.. إنه الكاهن الذي يلاحقني في كل مكان"
- فقال جاك شارلمو (وكيل المحكمة أي المدعي العام): نظراً لهذا العناد المؤلم أقترح أن تطبق عليها أساليب التحقيق والتعذيب.
- قال الرئيس: موافق.
واقشعر جسد الفتاة كله، ونهضت وسارت يسبقها شارلمو وكهنة محكمة التفتيش نحو باب فتح فجأة ثم أغلق عليها.
دفعت أسميرالدا إلى داخل غرفة مخيفة مستديرة الشكل بلا نوافذ ، فلا نافذة في هذا الكهف، ولا مخرج له غير باب منخفض مصنوع من الحديد السميك ، كان في الغرفة موقد تشتعل فيه نار عظيمة.
وكانت هناك ملاقط حديدية وكماشات وأعواد وأسياخ وأشكال أخرى وضعت في وسط الأتون الملتهب ، وعلى الفراش الجلدي في وسط الغرفة كان يجلس "بطرس تورتارو" الجلاد ومساعدوه.
واقترب جاك شارلمو من الغجرية تعلو فمه ابتسامة رقيقة، وقال:
- يا طفلتي العزيزة.. هل ما زلت تصرين على إنكار التهمة؟
- أجابت: نعم.
- إذن تفضلي وخذي مكانك فوق هذا الفراش.. معلم بطرس! أخل للفتاة مكانها.. أين الطبيب؟
- فأجاب رجل بثوب أسود: إنني هنا.
- وتردد صوت وكيل المحكمة للمرة الثالثة: هل تصرين على إنكار التهمة؟
- فأشارت الفتاة برأسها.. نعم.
- أنا آسف... لكن علي أن أقوم بواجب وظيفتي.
- قال بطرس الجلاد فجأة: بأي شيء نبدأ يا سيدي؟
- فتردد شارلمو قليلاً ثم قال: بالحذاء الحديدي.
في هذه الأثناء قام مساعدو الجلاد بتعرية ساق الشابة بقسوة ووحشية بالغتين، ودمدم الجلاد وهو يقول: "إنها خسارة حقاً"
ثم لم تلبث أن وجدت قدمها حبيسة داخل الحذاء الحديدي فمنحها الرعب شيئا من القوة، فصرخت: ادفعوا هذا عني.. الرحمة! وصرخت في ألم عنيف ونهضت في محاولة لكي ترمي نفسها تحت قدمي وكيل الملك ضارعة، ولكن قيودها الثقيلة حالت دون ذلك، فانهارت فوق الفراش خائرة القوى.
وبإشارة من شارلمو أثبتت يدان غليظتان حول خصرها الرقيق حبلاً كان معلقاً في وسط السقف. عندئذ سألها شارلمو:
- للمرة الأخيرة أسألك: هل تعترفين بالجرائم التي اتهمت بها؟
- إنني بريئة.
- إذن ابدأ يا بطرس.
وأدار بطرس مقبض الرافعة فضغط الحذاء الحديدي فوق قدمها فأطلقت البائسة صرخة مذعورة.
- فقال شارلمو: هل تعترفين؟
- وصرخت الفتاة: بكل شيء.. أنا أعترف.. الرحمة.. الرحمة!
- فقال وكيل الملك: ترغمني عاطفتي الإنسانية على أن أخبرك بأن اعترافك يعني الموت الذي تنتظرين.
- أرجو ذلك.
ثم هبطت فوق الفراش الجلدي، معلقة شبه ميتة بالحزام الجلدي الذي ربط حول خصرها ، كان واضحاً أن روحها، بل كل شيء فيها قد انهار وتحطم.
فقال شارلمو: اكتب أيها الكاتب.
ثم توجه إلى الجلادين: فكوا وثاق السجينة واحملوها إلى قاعة المحكمة.
ثم التفت إلى أعضاء المحكمة الكنسية وقال: لقد استبانت العدالة أخيراً سبيلها.
هكذا كانت العدالة تتحقق في الغرب طوال المئات والمئات من السنين.. وبدلاً من أن تصبح الكنيسة منبع خير ورحمة للشعب كانت منبع الظلم والعذاب والآلام.
سادية الغرب ما زالت مستمرة:
لذا فمن يستغرب قيام الاحتلال الأمريكي بتطبيق أقسى أنواع التعذيب في سجن أبو غريب وفي معتقل جوانتانامو، مع إن أمريكا تمثل قمة الحضارة الغربية، أو قيام الاحتلال الفرنسي بقتل أكثر من مليون ونصف المليون جزائري، أو قيام إيطاليا بالفظائع عند احتلالها ليبيا، أو قيام بريطانيا بالقضاء تقريباً على الأهالي الأصليين لأستراليا... إلخ، من يستغرب هذه المظالم عليه أن يقرأ التاريخ الغربي ويرجع إلى طفولة هذه الحضارة الغربية.
فمن المعروف أن العديد من المشكلات النفسية للإنسان البالغ يرجع إلى مشكلات وإلى أحداث جرت له في طفولته ، وأثرت على عقله الباطن ، وبقى متخفياً في لا شعوره.
هذه هي طفولة الغرب.. وهذه هي الحوادث والظروف التي شكلت عقله الباطن
المصدر: مجلة المجتمع 1762 1763