[size=2
معلقة الحارث بن حلزة اليشكري
آذَنَتْنـــا ببَيـــْنــهِــــا أَسْـــمَـــاءُ **** ربَّ ثَـاوٍ يُمَــلُّ مِنْـــهُ اُلْثَّــوَاءُ
بَعْدَ عَهْـــدٍ لَنَا بِبُرْقَةِ شَـــمّــــا **** ءَ فَأَدْنَى دِيَــــارِهَـا اٌلْخَلْصاءُ
فَالُمحَيَّاةُ فالصِّفــــاحُ فَأَعْنــا **** قُ فِتَـاقٍ فَعــاذِبٌ فَالْـــوَفَــاءُ
فَرِياضُ اُلْقَطَا فأوْدِيَةُ الشُّــــرْ **** بُبِ فالشُّــعْـبـَتَـانِ فـالأَبْـــلاءُ
لا أرى مَنْ عَهِدْتُ فيهَا فأبكي اٌلْـ **** ـيَوْمَ دَلْهـــاً وَمَا يُحِيـــرُ اُلْبُكَـاء
وَبِعَـيـْنَيْــكَ أَوْقَـــدَتْ هِنْدٌ اُلْنَّـــا **** رَ أَخِيـــراً تُلْــوِي بِها اُلْعَلْيَـــاءُ
فَتَنَـــوَّرْتُ نَارَهَـــا مِنْ بَعيــــدٍ **** بِخَزَازَى هَيْهاتَ منْكَ الصَّلاءُ
أوْقَدَتْها بَينَ اُلْعَقِيقِ فَشَـخْصَيْـ **** نِ بِعُــودٍ كما يَلُوحُ الضٍّيَـــاءُ
غَيْرَ أَنّي قَدْ أَسْتَعِينُ على اٌلَهْمٍّ **** إذا خَـــــفَّ بالثَّــــوِيٍّ النٍّجـاءُ
بِزَفُــوفٍ كَأُنَّهَــا هقْلَــــــةٌ أُمُّ **** رئَالٍ دوِّيَّـــةٌ سَـــــقْـــفـــــاءُ
آنَسَــــتْ نَبْـأَةَ وَأفــزَعَهــا الْقُـ **** ـّناصُ عَصْراً وقَدْ دَنَا الإِمْساءُ
فَتَرَى خَلْفَهَا مِنَ الرَّجْــعِ وَالْوَ **** قْعِ مَنِـيـنـــاً كأَنَّـــــهُ إِهْبَـــــــاءُ
وَطِـــراقاً مِنْ خَلْفِهِنَّ طِــراقٌ **** سَــاقِطَاتٌ أَلْوَتْ بها الصَّحْراءُ
أَتَلَهَّى بها الَهوَاجِـرَ إِذْ كُلَّ ابْـ **** ـنِ هَــــــــمٍّ بَـلِـــيَّـــةٌ عَمْيـــاءُ
وَأَتَانَا مِنَ الْحَوَادِثِ وَالأَنْبَــــا **** ءٍ خَطْــــبٌ نُعْنَى بِهِ وَنسَــــاءُ
إِنَّ إِخْوَانَنَا الأَرَاقِــمَ يَغْــــلُــو **** نً عَلَيْنــــا، في قِيلِهِـــمْ إِحْفاَءُ
يَخْلِطُونَ الْبَرِيءَ مِنَّا بذِي الذَّنْـ **** ـبِ وَلا يَنْفَــــعُ الْخَليَّ الْخَــلاءُ
زَعَمَوا أَنَّ كُلَّ مَنْ ضَرَبَ الْعَيْـ **** ـرَ مُــــوَالٍ لَنَا وَأَنَّـــا الْــــوَلاءُ
أجْمَعُوا أمْرَهُمْ عِشَـــــاءَ فلَمَّــــا **** أَصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لُهمْ ضَوْضَاءُ
مِنْ مُنادٍ وَمِنْ مُجِيبٍ وَمِنْ تَصْـ **** ـهــالِ خَيْــــلٍ خِلالَ ذاكَ رُغَاءُ
أَيُّهَا النَّاطِـــقُ الُمرَقِّــشُ عَنَّــا **** عِنْدَ عَمْـــرٍو وَهَلْ لِذَاكَ بَقَــاءُ
لا تَخَالْنَا على غَرَاتِـــــكَ إنَّــــا **** قَبْلُ ما قَدْ وَشَــى بِنَا الأعْـــدَاءُ
فَبَقِينــــا على الشَّــــنَاءَةِ تحْمِيـ **** ـنا حُصُــونٌ وَعِــزَّةٌ قَعْســاءُ
قَبَلَ ما الْيَوْمِ بَيَّضَتْ بعُيُونِ النـ **** ـاسِ فيهَـــا تَغَيُّــــظٌ وَإِبَــــــاءُ
وَكأَنَّ الَمنُــونَ تَرْدِي بنَــــا أَرْ **** عَنَ جوْناً يَنْجَــابُ عَنْهُ الْعَماءُ
مُكْفَهِرّاً على الَحـــوَادِثِ لا تَرْ **** تُــوهُ للـدَّهْـرِ مُؤَيَّــدٌ صَمَّــــاءُ
أَيُّما خُطَّــــةٍ أَرَدْتُـــــمْ فَـــأَدُّوهـَ **** ـا إِلَيْنَا تُشْــــفَى بهـــا الأمْـــلاءُ
إِنْ نَبَشْــــتُمْ ما بَيْنَ مِلْحَةَ فَالصَّا **** قِبِ فِيهِ الأَمْــــوَاتُ وَالأحْيـــاءُ
أَوْ نَقَشْتُمْ فالنَّقْـــشُ يجْشَــمُهُ النَّا **** سُ وَفِيهِ الإِسْــــقَامُ وَالإِبْـــرَاءُ
أَوْسَـــكَتُّمْ عَنَّا فكُنَّــا كَمـــنْ أَغْـ **** ـَمضَ عَيْناً في جَفْنِهَــا الأَقـذَاءُ
أَوْ مَنَعْتُمْ مَا تُسْـــأَلُونَ فَمنْ حُدِّ **** ئْتُمُــــوهُ لَهْ عَلَيْنَـــــا الْعَــــلاءُ
هَلْ عَلِمْتُمُ أَيّــــامَ يُنتَهَــــبُ الْنا **** سُ غِــــوَاراً لِكُلِّ حَيِّ عُـــوَاءُ
إِذْ رَفَعْنَا الجِمالَ مِنْ سَعَفِ البَحْـ **** ـرَينِ سَــيْراً حتَّى نَهاهَا الحِساءُ
ثم مِلْنـــا على تَميــمٍ فأَحـــرَمْـ **** ـنــا وَفِينــا بَنَــاتُ قَـــوْمِ إِمَـاءُ
لا يُقيــــمُ الْعزِيزُ بالبَلَـــدِ السَّهْـ **** ـلِ وَلا يَنْفَــــعُ الذَّلِيلَ النَّجَــــاءُ
لَيْــــسَ يُنْجِي الّذِي يُوَائِلُ مِنــــا **** رَأُسُ طَـــوْدٍ وَحَـــرَّةٌ رَجْـــلاءُ
فَملَكْنـــا بــذلكَ النّـــاس حتّــى **** مَلَكَ المنْــــذِرُ بنُ ماءِ السَّــماءُ
مَـلِـكٌ أَضْــرَعَ الْبَرِيَّـةَ لا يُــــو **** جَــــدُ فِيهــــا لِمـــا لَدَيْـهِ كِفَــاءُ
فاْترُكوا الطَّيْخَ والتعاشِي وَإِمَّــا **** تَتَعَاشَــــوْا فَفي التَّعاشِـــي الدَّاءُ
وَاذكُرُوا حِلْفَ ذي الَمجازِ وما قدِّ **** مَ فيــــهِ الْعُـــهُــــودُ وَالْكُفَــــلاءُ
حَذَرَ الَجوْرِ وَالْتَّعَدِّي وَهَـــــلْ يَنْـ **** ـقُضُ ما فـي الَمَهـارِقِ الأَهــوَاءُ
وَاعْلَمُــــوا أَنَّنــــا وَإِيَّاكُـــــمْ فِيـ **** ـمَا اشْــتَرَطْنا يَوْمَ اخْتَلَفْنا سَوَاءُ
عَنَنـــاً باطِلاً وَظُلْمــاً كمـــــا تُعْـ **** ـتَرُ عَنْ حُجْــرَةِ الرَّبيضِ الْظِّباءُ
أَعَلَيْنــــا جُنـــاحُ كِنْــــدَةَ أَنْ يَغْـ **** ـنَــــمَ غازِيهِـــمُ وَمِنَّا الجَــــزَاءُ
أَمْ عَلَيْنا جَـــرَّى إِيَـــادٍ كمــا نِيـ **** ـطَ بِجَـــوْزِ الُمحَمَّـــلِ الأَعبَــاءُ
أَمْ عَلَيْنا جَرَّى قُضـــــاعَةَ أَمْ لَيْـ **** ـسَ عَلَيْنـــا فيما جَنَــــوْا أَنْــدَاءُ
أَمْ جَنَايَـــا بَنــي عَتيــــقٍ فَإنَّــــا **** مِنْكُـــــمُ إِنْ غَــــدَرْتُــمْ بُــــرَآءُ
وَثَماُنـــــون مِنْ تَمِيــــمٍ بِأَيْــدِيـ **** ـهِـــمْ رِمَاحٌ صُدُورُهُنَّ الْقَضــاءُ
ثمَّ جَاؤوا يَسْـــتَرْجعُونَ فَلَـمْ تَرْ **** جِعْ لَهُمْ شَـــامَـــةٌ وَلا زَهْــــرَاءُ
لَيْسَ مِنَّا الُمَضَّـربُونَ وضلا قَيْـ **** ـسٌ وَلا جَـنْــــدَلٌ وَلا الحَــــذَّاءُ
تَرَكُــــوهُمْ مُلَحَّبِيـــنَ وآبُـــــوا **** بِنهَــــابٍ يَصُمُّ مِنْهــا الحُـــــدَاءُ
أمْ عَلَيْنا جَــــرَّى حَنيفَــــةَ أَمْ مَا **** جَمَّعَـــتْ مِنْ مُحارِبٍ غَبْـــرَاءُ
لَمْ يُحِلوا بَني رِزَاحٍ بِبَـــرْقَـــــا **** ءِ نِطــاعٍ لَهُـــمْ عَلَيْهـــمْ دُعَــــاءُ
ثُمَّ فَاؤوا مِنْهُمْ بِقَاصَـــمةِ الظَّهْـ **** ـرِ وَلا يَبْــــرُدُ الْغَلِيــــلَ الَمـــاءُ
مَا أَصَابُوا مِنْ تَغْلِبِّي فَمطُلــــو **** لٌ عَلَيْـــــهِ إِذا أُصِيــب الْعَفَـــاءُ
كَتَكاليــــفِ قَوْمِنا إِذْ غَزَا الُمْنـ **** ـذِ رُهَــلْ نَحْنُ لاْ بـنِ هِندٍ رِعَاءُ
إِذْ أَحَلَّ الْعَلْيَـــاءَ قُبَّــــةَ مَيْسُـــو **** نَ فَأدْنَى دِيَارِهــــا الْعوصَــــاءُ
فَتَــــأَوَّتْ لَـهُ قَرَاضِبَـــــــةٌ مِنْ **** كُــلِّ حَـــيِّ كَــأَنــهُــمْ أَلْـــقَـــاءُ
فَهدَاهُمْ بالأَسْــــوَدَيْن وَأَمْرُ اللّـ **** ـهِ بِلْــغٌ تَشْــــقَى بِهِ الأَشْــــقيَاءُ
إذْ تَمَّنوْنَهُـــمْ غُرُوراً فَسَـــاقَــتْـ **** ـهُــمْ إِلَيْكُـــمْ أُمْنِيَّـــة أَشْــــــراءُ
لَمْ يَغُـرُّوكُــمُ غُـــرُوراً وَلكِـــنْ **** رَفَعَ الآلُ شَـخْصَهُم وَالْضَّحَــاءُ
أَيُّها النـاطِـــقُ الُمَبلِّـــغُ عَنـــــا **** عندَ عَمْـــرٍو وَهَـلْ لذَاكَ انْتِهَاءُ
إِنّ عَمــــراً لَنا لَدَيْـهِ خِـــــلالٌ **** غَيْر شَــــكِّ في كُلِّهـــنَّ البَـــلاء
مَلِكٌ مُقْسِـــطٌ وَأَفْضَلُ مَنْ يَـمـْ **** ـشي وَمِنْ دُونِ مَا لَدَيْـهِ الثَّنَـــاءُ
إِرَمِـــــيٌّ بِمثْلِــهِ جَالَــتِ الْخَيْـ **** ـلُ وَتَأْبَـــى لَخصْمِهَـــا الإِجْلاءُ
مَنْ لَنـــاِ عِنـــدهُ مِنَ الَخْيْرِ آيا **** تٌ ثلاثٌ في كِّلهِــــنَّ الْقَضَـــاءُ
آيَةٌ شَـارِقُ الْشَّــــقِيقَـــةِ إِذْ جَا **** ءَتْ مَعَــــدٌّ لِكُلِّ حَـــيِّ لِـــــوَاءٌ
حَوْلَ قَيْسٍ مُسْتَلْئِمِين بَكَبْــــشٍ **** قَرَظِــــــــي كَـأَنّـــــهُ عَبْـــــلاءُ
وصَيــتٍ مِـن الْعواتِـــكِ لا تَنـ **** ـهَـاهُ إِلا مُبْيَضَّـــــــةُ رَعْـــــلاءُ
فَرَددْنَـــاهُمُ بطعْـــنٍ كمــا يَخْـ **** ـرُجُ مِنْ خُرْبَـــــةِ الَمزادِ الَمـاءُ
وحَمَلْنَاهُمُ على حَـــزْمِ ثَهْــــلا **** نَ شِــــلالاً وَدُمِّــــيَ الأَنْسَــــاءُ
وجَبَهْنـاهُمُ بطعْــــنٍ كمـــا تُـنْـ **** ـهَزُ في جَمَّــةِ الطّــوِيِّ الـــدِّلاءُ
وفَعلْنا بِهِــــمْ كمــا عَـلَــــمِ اللهُ **** ومَا إِنْ للحَــائِـنـيــــــنَ دِمَـــــاءُ
ثُمَّ حُجْراً أَعْنـي ابنَ أُمِّ قَطـــامٍ **** ولَــــهُ فَارِسِـــــيَّــةٌ خَضْـــــرَاءُ
أَسَــــدٌ في اللِّقاءِ وَرْدٌ هَمُــوسٌ **** ورِبيـــعٌ إِنْ شَــــمَّرَتْ غَبْـــرَاءُ
وفَكَكْنـاُ غُلَّ امرِىءِ القيسِ عنْـ **** ـهُ بَعْدَما طَــالَ حَبْسُــــهُ والْعناءُ
وأَقَدْنَــاهُ رَبَّ غَسَّــــــانَ بالُمنْـ **** ـذِرِ كَرْهــــاً إِذْا لا تُكــالُ الدِّماءُ
وأَتَيْنـــاهُـــمُ بِتِسْـــــعَةِ أَمْــــلا **** كٍ كِــــرَامٍ أَسْـــــلابُهُم أَغْــــلاءُ
ومَعَ الجَوْنِ جَوْنِ آلِ بَني الأَوْ **** سِ عَنُــــــودٌ كأَنّهــــا دَفُــــــوَاءُ
مَا جَزٍعُنا تَحْتَ الْعُجاجَةِ إِذا وّلـ **** ـوا شِـــلالاً وَإِذْ تَلظَّـــى الصَّلاءُ
وَولَدْنــا عَمْــــرو بـنَ أُمِّ أُنَاسٍ **** مِنْ قَريــبٍ لَمــا أَتَانـا الحِبِـــــاءُ
مثْلُها تُخْـــرِجُ النصيحـــةُ للقَوْ **** مِ فَــــلاةٌ مِنْ دُونِهـــا أَفْــــــــلاءُ
ثُمَّ خَيْلٌ مِنْ بَعـــدِ ذاكَ الْغَـــــلاّ **** قِ لا رأْفَـــــةٌ وَلا إِبْـــــــقــــــاءُ
وَهو الرَّبُّ والشَّهــــِيدُ على يَوْ **** مِ الِحيَارَيــــــنِ وَالْبلاء بَـــــلاءُ
4][/si
تعريف / بمعلقة الحارث بن حلزة
ألقى الحارث هذه المعلَّقة، في مجلس عَمرو بن هند، مدافعاً عن
قبيلته إزاء بني تغلب. استهلَّها، كما ذكر ابن الأنباري، بالغزل، ووصف
الطَّلل والنَّاقة والنَّعامة، متخلّصاً إلى الترافع أمام الملك، مفنّدا
حججَ الخصم وتخّرصه، متفاخراً برفعة بني قومه، وتحصّنهم على الأعداء. ثم
يمضي في تعداد وقائعهم وأيامهم، وأخذهم بني تغلب، بعد تحذير وإنذار،
ويدعوهم إلى أن يَدعوا التكبّر، ويوفّوا بالعهود والمواثيق، فلا يُلزموهم
ذنب غيرهم، كبني عتيق وبني تميم، وبني حنيفة وقضاعة. وهذه المعلقة تمثَل
الشعر الملتزم لقضيَّة، المدافع عن وجهة نظر، وهو ربيب الفروسيَّة، يُكمّل
مُهمَّة السَّيف، يجري إلى جنبه، يَحفزُه، ويقتفي أثَره، ويتغَنى
بانتصاراته.
قال التبريزي: قال أبو عمرو الشيباني: "كان من خبر هذه
القصيدة والسبب الذي دعا الحارث إلى قولها أن عمرو بن هند الملك- وكان
جبّاراً عظيم الشأن والمُلك- لما جمع بكراً وتغلب ابني وائل، وأصلح بينهم،
أخذ من الحييّن، رهناً من كل حيّ مائة غلام ليكف بعضهم عن بعض. فكان أولئك
الرهن- يكونون معه في سيره ويغزون معه. فأصابتهم ? ريح ? سَمُومٌ في بعض
مسيرهم فهلك عامّة التغلبيين، وسلم البكريون. فقالت تغلب لبكر: أعطونا ديات
أبنائنا، فإن ذلك لكم لازم، فأبت بكر بن وائل.
ثم اجتمعت تغلب إلى عمرو
بن كلثوم وأخبروه بالقصة. فقال عمرو- لقومه-: بمن ترون بكر تعصب أمرها
اليوم? قالوا: بمن عسى إلا برجل من أولاد ثَعْلَبة. قال عمرو: أرى والله
الأمر سينجلي عن أحمر أصلج أصّم من بني يشكر.
"فجاءت بكر بالنعمان بن
هرم: أحد بني ثعلبة... وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم. فلما اجتمعوا عند الملك
قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم: يا أصمّ! جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل
عنهم وهو يفخرون عليك! فقال النعمان: وعلى من أظلّت السماءُ كلُّها يفخرون،
ثم لا يُنكر ذلك. فقال عمرو له: أما والله لو لطمتُك لطمة ما أخذوا لك
بها. فجاء جواب النعمان نابياً وبذيئاً. فغضب عمرو بن هند وكان يؤثر بني
تغلب على بكر، فقال: يا جارية أعطيه لَحْياً بلسان أنثى (أي اشتميه
بلسانك). فقال: أيها الملك أعط ذلك أحب أهلك إليك. فقال: يا نعمانُ أيسرُّك
أني أبوك? قال: لا! ولكن وددت أنّك أميّ. فغضب عمرو بن هند غضباً شديداً
حتى همّ بالنّعمان.
وقام الحارث بن حلّزة فارتجل قصيدته هذه ارتجالاً: توكّأ على قوسه وأنشدها وانتظم كفّه وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها.
وخبر
الحارث في بلاط عمرو بن هند هو أبرز مواقف حياته وفيه ورد أفضل ما قاله من
الشعر وهو المعلّقة. وفي خلال ذلك لم يردنا الكثير عن حياة هذا الشاعر،
ولاسيما أيامه الأخيرة ووفاته. لكنّ نفراً من الأدباء في المراجع القديمة
اتفق على أن الحارث كان بين المعمّرين من الشعراء، وعنهم أخذ الأب شيخو
فذكر أن الشاعر اليشكري مات سنة 580م وكان عمره مئة وخمسين سنة، فتكون
ولادته بحسب هذه الرواية في حدود 430م.
ليس للحارث من القصائد المرموقة
سوى المعلّقة، وهي في عداد السبع الطوال. وهي واقعة في نحو خمسة وثمانين
بيتاً، وتجمع بين الغزل والوصف والمدح ويغلب عليها طابع الفخر وقد اعتبرت
من القصائد ذات الدلالة على بيئة العرب والأحداث الكبار في جاهليتهم، خلال
القرن السادس الميلادي، ولاسيما ما يتصل بالصراع المرير بين تغلب وبكر في
ظروف حرب البسوس.
أما سائر شعر الحارث- الذي جمع في مخطوط كان محفوظاً
في جامع السلطان محمد الفاتح بالقسطنطينية، والذي نشره المستشرق فريتس
كرنكو- فلا يتجاوز مع المتناثر من أبياته في الأغاني للأصبهاني، وفي أمثال
الميداني، ومعجم البلدان لياقوت أكثر من خمسين بيتاً، حرصنا في هذه الطبعة
على شرحها شرحاً وافياً إلى جانب المعلقة، ليكون للحارث ديوانه الذي يليق
بمكانته التي قرّظتها المصادر القديمة. ونوّهت بها المراجع الحديثة.
وشعر
الحارث، متوّجاً بالمعلقة، يجمع بين القيمة التاريخية والأدبيّة ويجعل من
صاحبها الشاعر الخطيب، والخطيب المنافح عن قومه وعزّتهم بكبرياء لا يخالطه
صلف، وأنفة لا تشوبها غلظة أو غرور فارغ. فهو أحد شعراء المعلقات الأكثر
بعداً عن الهوس والحماس الطائش، والدفاع الأرعن المتهوِّر.
وأظهر ما في
أسلوب الحارث، روعة الإيجاز وقوة الحجة والعناية بالتمثيل البياني والوصف
البليغ والحرص على المتانة وقوة التركيب وقد تنوّعت في ديوان الحارث
الأوزان والقوافي وبرّزت معلّقته على ما عداها من قصائد الكبار بفخامتها
وجرسها فكانت سبب خلود صاحبها حتى قال الشيباني: لو قال الحارث معلّقته في
حول لم يُلم.
وقد اهتم المستشرقون الغربيون بشعراء المعلقات محاولين
التعرف على الظروف الاجتماعية المحيطة بهم، والأسباب التي دفعتهم لنظمهم
هذه المعلقات وعن أي موضوع تتحدث، فقد قالت ليدي آن بلنت وقال فلفريد شافن
بلنت عن معلقة الحارث بن حلزة في كتاب لهما عن المعلقات السبع صدر في بداية
القرن العشرين: يقال إنه نظم معلقته في سن المئة. وهي من أولها إلى آخرها
قطعة من الدفاع الخاص، أي أن موضوعها سياسي، وهذا ما يجعلها الأقل مثارة
للاهتمام من بين المعلقات السبع. إلى حد ما، هي ليست مزخرفة بالأوصاف
الطبيعية البرية للحيوانات والطيور والأشجار، ما يصنع سحر وفتنة المعلقات
الأخرى، كما ليس هناك كثيراً من الأصالة أو العاطفة الجياشة في مطلعها،
لعله ذكر هذا كنوع من التقليد المرعي، وربما استعاره في عمره المتقدم من
شعر شبابه، إذ أنها لا تتقاسم سمات بقية المعلقة، ولا صدى لها في بقية
المعلقة. القصيدة نقاش طويل يعبر عنه بحماس وليس دون جمال، لكن بمديح
للأمير المخاطب، أمر شائع بين شعراء ما قبل الإسلام. يقال إن هند أم الأمير
سرت لذكر اسمها في أبيات القصيدة الأولى وأنها أثرت على ابنها عمرو لتلبية
مطلب الحارث.
يقدم التبريزي بعض التفاصيل حول هذه النقطة، قال إن
الحارث أعد معلقته لهذه المناسبة لكنه شعر بالخجل لإلقائها بسبب إصابته
بالجذام. طلب الملك منه إلقاءها من وراء سبع ستائر، وبعد ذلك طلب غسل موطيء
قدميه بالماء، لكنه في الأخير اقتنع وألقى الحارث قصيدته من خلف ستارة.
كانت هند تسمع وقالت " تالله لم أر مثل هذا اليوم الذي يتكلم فيه رجل من
خلف سبع ستائر. أمر الملك برفع الستارة الثالثة والثانية ثم رفعها كلها حتى
يقف الشاعر أمام الملك ، وطلب منه تناول الطعام من طبقه، وعندما خرج أمر
بعدم غسل موطيء قدميه. وهكذا حقق الحارث مأربه بإصدار ابن هند مرسوماً
لصالح قبيلته. المعلقة مليئة بالتلميحات إلى أحداث مبهمة التي يصعب فهمها
تماماً.
وقال دبليو إى كلوستون عن معلقة الحارث بن حلزة في كتاب من
تحريره عن الشعر العربي: تحتوي معلقته النقاش الذي دار عندما أرسل إلى بلاط
عمرو بن هند ملك الحيرة ليمثل قبيلة بني بكر إثر خلافها مع بني تغلبز
والتي كان تأثيرها من القوة حتى أن أمير الحيرة حكم لصالح بني بكر،
وتكريماً للشاعر رفع الملك الستائر السبع التي وضعها أثناء إلقائه قصيدته
وطلب منه الجلوس بجانبه. وقال جونز: في شكل رزين ثابت يناسب سنوات عمره
المهيبة، جاءت معلقة الحارث، رداً على الخطابة الرنانة المفرطة لخصمه
المتفاخر. مع ذلك، لا يتردد في أن ينسب إلى قبيلته كل الفضائل التي ينبغي
أن يتصف بها العرق النبيل.
ze]