قهر الرجال في قول كثير من العلماء :
ما يصيب الإنسان من قهر وهم وغم بغلبة انتصر عليه بها وهو يعلم أنه على الحق وخصمه على الباطل .
وأردت بهذه العظة أن أذكر أخواتي أن الحياة الدنيا ميدان تنافس فربما غلبت
المطامع الدنيوية على العبد فكان سبباً في قهر أخوانه حتى يصل إلى مبتغاه
وأمله فيجعل الطريق إلى مبتغاه وأمله أن يمضي على أكتاف الناس وهذا خلاف
اليقين بالله جل وعلا والإيمان بقضائه وقدره وفيه ما فيه من معارضه قول
النبي صلى الله عليه وسلم .
وكنت كلما قرأت أو سمعت هذين الحديثين تذكرت إمام النحاة سيبويه رحمه الله تعالى .
قصة سيبويه
سيبويه عليه من الله الرحمة والغفران فارسي الأصل نشأ في البصرة وكان أول
حياته يطلب الحديث فجلس إلى شيخ يقال له حماد بن سند وأخذ يقرأ فمر على
حديث بصرف النظر عن سند صحته فقال سيبويه وهو يقرأ : " أنه ليس من أصحابي
أحد إلا ولو شئت لرددت عليه ليس أبو الدرداء " فأجرى سيبويه وهو يومئذ يطلب
الحديث أجرى ما بعد ليس على عمل ليس الأصلي وهو رفع ما بعدها فقال له شيخه
: أخطأت يا سيبويه أنما هو استثناء كان ينبغي أن تقول : " ليس أبا
الدرداء" . فأطبق الكتاب وقال : " لأطلبن علماً لا ينحلني معه أحد " .
فلزم شيوخ البادية وعكف عند الخليل ابن أحمد الفرهيدي يطلب منه العلم وأخذ
عن غيره من الأقران كيونس وعيسى بن عمر وغيرهما من أئمة نحاة البصرة آنذاك
حتى علا شأنه وهو صغير و تفوق على كثير من طلاب العلم حتى أصبح وهو في
العقد الثالث من عمره إمام البصرة لا ينازعه في إمامة النحو أحد وقبل أن
يصل إلى مأساته في تلك الفترة ألف كتابه [ الكتاب ] ولم يخرجه للناس رغم أن
كتابه المسمى الموصوف بالكتاب في النحو ألفه سيبويه في أوائل القرن الثاني
تقريباً وإلى اليوم لم يألف أحد في النحو كتاباً أكمل ولا أعظم من كتاب
سيبويه رغم عشرات القرون مما يبين بجلاء أن للرجل قدم سبق واضحة وعلو كعب
في علم النحو وسيأتي الحديث عن الكتاب بعد ذلك.
ثم لما سمع بغداد وكانت يومئذ عاصمة الخلافة وكان أقرانه من الكوفيين
كالكسائي وغيره يذهبون إلى بغداد فينالون حظوة الأمراء وأعطياتهم وشرف
المنازل أراد أن يسعى في مرحلة جديدة من حياته، فانتقل من البصرة إلى بغداد
ونزل عند يحي بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ثم أراد أن يخوض مرحلة
جديدة من حياته فلما دخل على يحي أقام يحي مناظرة بينه وبين الكسائي زعيم
نحاة الكوفة وكانت اللعبة السياسة آنذاك بين البصرة والكوفة في أوجها لأن
البصرة كانت في السابق حليفة لبني أمية فلما تغير الأمر السياسي أضحت قلوب
بني العباس مع أهل الكوفة أكثر منها مع أهل البصرة ، أقيمت المناظرة وكانت
في حال الاسم الواقع بعد إذا الفجائية فكان سيبويه يرى أن الرفع حال واحدة
لا تقبل الوجهين وكان الكسائي يرى جواز الوجهين الرفع مع النصب فقال لهما
يحي : " اختلفتما و أنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما " فقال الكسائي : "
هذه جموع الأعراب ببابك قادمة من كل صقع فجعلها تحكم بيننا " – و كانت
الأعراب يومئذ لم تخالطها العجمى - يحكمون بين النحاة لأنهم على السليقة
وكان الكسائي صاحب حظوة عند هارون الرشيد فأراد الأعراب أن يماروا ويجاملوا
الكسائي على سيبويه رغبة في أن الكسائي له منزلة عند الخليفة أعظم رغبة في
المال والجاه والأعطيات فلما قال الكسائي ما عنده وقال سيبويه ما عنده
وسيبويه يعلم يقيناً أنه على الحق قالت الأعراب ممن حضروا واحتكموا إليهم :
" إن الحق مع الكسائي " فلما قيلت هذه الكلمة أنقبض خاطره وكُسر ظهره وما
جاء من أجله ، فزاده الكسائي نكالاً أن قال ليحي : " أيها الأمير أصلحك
الله إن الرجل قدم يرجوا أعطياتك فهلا جبرته " . فأعطى يحي سيبويه بعض من
المال يريد أن يجبر به كسره فخرج رحمه الله من عنده وقد أصابه من الغم
والهم وقهر الرجال ما أصابه يتوارى من الناس من سواء ما لحق به حتى أنه لم
يستطع أن يدخل البصرة بعدئذ رغم أنه رحمه الله كان إذا خرج لصلاة الفجر وهو
في الثانية والثلاثين من عمره إذا خرج لصلاة الفجر سحراً يجد طلاب العلم
يزدحمون على بابه يسألونه وهو يجيب كأنه يغرف من بحر فذهب هذا المجد كله
وهو قد جاء ليؤمن مجداً جديداً وعملاً خالداً فذهب إلى قرية من قرى فارس
ومر في طريقه على تلميذه الأخفش فبثه شكوه وقال له بنجواه وأخبره بالقصة
ولم يستطع بدنه أن يتحمل ما أصابه من قهر وهم المرض ولم يلبث شيئاً يسيراً
حتى توفي وعندما أحتضر وشعر بدنو الأجل تذكر بيتين من الشعر تناسب حاله
وكونه قد ذهب يريد أمراً فرجع بأخر فقال رحمه الله :
يأمل الدنيا لتـبـقــى له *** فوافى المنية دون الأمل
حثيثاً يُروي أصول النخيل *** فعاش النخيل ومات الرجل
ثم أسلم نفسه وفاضت روحه إلى باريها رحمه الله ..
هذا الرجل الذي مات بهذا القهر ترك للناس كما قلت كتابه [ الكتاب ] وهذا
الكتاب لا يعرف بعد كتاب لله جل وعلا كتاب شرحه العلماء أو حاموا حوله أو
طافوا ببابه ككتاب سيبويه وترجم بعصرنا هذا إلى أكثر لغات العالم . وجامعة
هارفرد الأمريكية وهي أرقى جامعات العالم أكاديمياً تحتفظ بنسخ منه وتضع
شهادات أكاديمية وترقيات علمية فيمن يستطيع أن يبحث في كتاب سيبويه بل أن
نحوي أمريكياً شهيراً أسمه تشومسكي ظهر في هذا العصر كتب في أول حياته في
السياسة ثم تفرغ للنحو وأخرج للجامعات العالم ما يسمى عالمياً [ بالنحو
التحويلي ] ونظرية تشومسكي في النحو التحويلي سارت بها الركبان في هذا
العصر وهو حي يرزق الآن في جامعات العالم ما قاله تشومسكي في النحو
التحويلي وُجد له أصل في كتاب سيبويه فقد لفت إليه سيبويه من قبل ألف سنة
كما بينا .
منقول
**************************************************