سلسلة من الصراعات على تولي السلطة بين أمراء البيت الحاكم، تولى "منكوقا آن بن تولوي بن جنكيز خان" عرش المغول في (ذي الحجة 648هـ = إبريل 1250م)، وعمل على إقرار الأمن وإعادة الاستقرار وإقامة الإصلاحات والنظم الإدارية، واختيار القادة الأكْفَاء لإدارة شئون ولاياتهم.
وبعد أن نجح في أن يقرّ الأحوال الداخلية وتخلص من مناوئيه اتجه نحو الفتح والغزو وتوسيع رقعة بلاده؛ فجهز حملتين كبيرتين لهذا الغرض، فأرسل أخاه الأوسط "قوبيلاي" على رأس حملة لفتح أقاليم الصين الجنوبية، ونصّب أخاه الأصغر على رأس حملة لغزو إيران والقضاء على الطائفة الإسماعيلية وإخضاع الخلافة العباسية.
حملة هولاكو على إيران
لم يكن هولاكو قد جاوز السادسة والثلاثين من عمره حين عهد إليه أخوه "منكوقا آن" بهذه المهمة فخرج على رأس جيش هائل قُدّر بنحو 120 ألف جندي من خيرة جنود المغول، بالإضافة إلى كبار القادة والفرسان، وحرص الخان الأكبر أن يوصي أخاه قبل التحرك بأن يلتزم بالعادات والتقاليد ويطبّق قوانين جده جنكيز خان، وأن يكون هدفه هو إدخال البلاد من ضفاف نهر "جيحون" حتى مصر في دولة المغول، وأن يعامل من يخضع لسلطانه معاملة طيبة، ويذيق الذل من يبدي المقاومة حتى ولو كان الخليفة العباسي نفسه، فعليه أن يزيحه ويقضي عليه إذا ما اعترض طريقه.
وحقق هولاكو هدفه الأول بالاستيلاء على قلاع طائفة الإسماعيلية سنة (654هـ = 1256م) بعد معارك عديدة واستماتة بذلها أفراد الطائفة في الدفاع عن حصونهم وقلاعهم، لكنها لم تُجدِ نفعا إزاء قوة الجيش المغولي، وكان لقضاء المغول على هذه الطائفة المنحرفة وقع حسن وأثر طيب في نفوس العالم الإسلامي، وعمّه الفرح على الرغم مما كان يعانيه من وحشية المغول وسفكهم للدماء؛ وذلك لأن الإسماعيلية كانت تبث الهلع والفزع في النفوس، وتشيع المفاسد والمنكرات والأفكار المنحرفة.
هولاكو في بغداد
مضى هولاكو في تحقيق هدفه الآخر بالاستيلاء على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية؛ فأرسل إلى الخليفة المستعصم بالله يتهدده ويتوعده، ويطلب منه الدخول في طاعته وتسليم العاصمة، ونصحه بأن يسرع في الاستجابة لمطالبه؛ حتى يحفظ لنفسه كرامتها ولدولته أمنها واستقرارها، لكن الخليفة رفض هذا الوعيد وقرر أن يقاوم، على الرغم من ضعف قواته وما كان عليه قادته من خلاف وعداء، فضرب هولاكو حصاره على المدينة المنكوبة التي لم تكن تملك شيئا يدفع عنها قدَرَها المحتوم، فدخل المغول بغداد سنة (656هـ = 1258م) وارتكب هولاكو وجنوده من الفظائع ما تقشعر لهوله الأبدان.
اهتز العالم الإسلامي لسقوط الخلافة العباسية التي أظلّت العالم الإسلامي أكثر من خمسة قرون، وبلغ الحزن الذي ملأ قلوب المسلمين مداه حتى إنهم ظنوا أن العالم على وشك الانتهاء، وأن الساعة آتية عما قريب لهول المصيبة التي حلّت بهم، وإحساسهم بأنهم أصبحوا بدون خليفة، وهو أمر لم يعتادوه منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).
هولاكو يجتاح الشام
شرع هولاكو بعد سقوط بغداد في الاستعداد للاستيلاء على بلاد الشام ومصر، وفق الخطة المرسومة التي وضعها له أخوه "منكوقا آن" فخرج من أذربيجان في رمضان (657هـ = 1259م) متجها إلى الشام، ونجح بالتعاون مع حلفائه المسيحيين في الاستيلاء على "ميافارقين" بديار حلب، وهي أول مدينة تبتدئ بها الحملة المغولية، ولم تسقط إلا بعد عامين من الحصار، نفدت خلالها المؤن، وهلك معظم سكان المدينة، وبعد سقوط "ميافارقين" واصل هولاكو زحفه نحو "ماردين" فسقطت بعد ثمانية أشهر، وفي أثناء حصار "ميافارقين" كانت قوات من جيش هولاكو تغزو المناطق المحاورة فاستولت على "نصيبين" و"حران" و"الرها" و"البيرة".
بعد ذلك تقدم هولاكو على رأس قواته لمحاصرة حلب، ونصب المغول عشرين منجنيقا حول المدنية وصاروا يمطرونها بوابل من القذائف حتى استسلمت في (التاسع من صفر 658هـ= الحادي والثلاثون من يناير 1260م) وبعد حلب سقطت قلعة "حارم" و"حمص" و"المعرة"، وأصبح طريق الحملة مفتوحا إلى دمشق.
ولما وصلت الأنباء باقتراب المغول من دمشق فرَّ الملك "الناصر يوسف الأيوبي" مع قواته، تاركا مدينته لمصيرها المحتوم، ولم يكن أمام أهالي دمشق بعدما عرفوا ما حل بحلب بعد مقاومتها لهولاكو سوى تسليم مدينتهم، حتى لا تلقى مصير حلب، فسارع عدد من أعيانها إلى زعيم المغول يقدمون الهدايا ويطلبون منه الأمان، في مقابل تسليم مدينتهم فقبل هولاكو ذلك، ودخل المغول المدينة في (السابع عشر من صفر 658هـ= 2 من فبراير 1260م).
رحيل هولاكو المفاجئ إلى إيران
أدى تحقيق الانتصارات المتتالية للمغول إلى الاعتقاد بأنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تتصدى لهم، وأن هؤلاء بلاء من الله سلطه على المسلمين الذين ركنوا إلى الراحة وأهملوا قرآنهم وسُنّة نبيهم وخارت عزائمهم.. وفي وسط هذه الحيرة جاءت الأنباء إلى هولاكو بوفاة أخيه "منكوقا آن خان" في (شعبان 657هـ= أغسطس 1259م) وكان عليه أن يكون قريبا من عملية اختيار خان جديد للمغول، ويساند ترشيح أخيه الأوسط "قوبيلاي" لهذا المنصب، فاضطر إلى العودة إلى إيران وكان في نيته أن يكتفي بما حققه، ولكنه عدل عن ذلك بسبب إلحاح القوات المسيحية التي كانت معه على الاستمرار في الغزو واستعادة بيت المقدس من المسلمين، فأبقى قوة من عساكره تحت إمرة أمهر قواده كيتوبوما (كتبغا) لإتمام عملية الغزو.
انتهاء أسطورة المغول في عين جالوت
وقبل أن يغادر هولاكو الشام (سنة 658هـ = 1260م) أرسل إلى قطز رسالة كلها وعيد وتهديد، يدعوه فيها إلى الاستسلام وإلقاء السلاح، وأنه لا جدوى من المقاومة أمام قوة كُتب النصر لها دائما، غير أن السلطان قطز لم يهتز لكلمات هولاكو، أو يتملكه الخوف والفزع كما تملك غيره من قادة الشام فآثروا الهوان على العزة والكرامة، والحياة تحت سلطان وثني على الموت والاستشهاد دفاعا عن الدين والوطن.
وكان قطز على قدر الحدث العظيم والخطب الجلل، فقتل رُسل هولاكو، وخرج للقتال ولم ينتظر قدوم المغول، والتقى الفريقان في (15 من رمضان 658هـ = 24 من أغسطس 1260م) في موقعه "عين جالوت" بفلسطين، وحمل المسلمون على المغول الذين كانوا تحت قيادة كتبغا حملة صادقة، وقاتلوهم باستبسال وشجاعة من الفجر حتى منتصف النهار، فكتب الله لهم النصر، وهُزِم المغول هزيمة منكرة لأول مرة في تاريخهم، بعد أن كانت القلوب قد يئست من النصر عليهم.
وكان لهذا النصر أثره العظيم في تاريخ المنطقة العربية والعالم الإسلامي، بل في تاريخ العالم بأسره؛ حيث احتفظت مصر بما لها من حضارة ومدنية، وطردت المغول من دمشق، وأصبحت بلاد الشام حتى نهر الفرات تحت حكم المماليك، وخلّصت أوربا من شر عظيم لم يكن لأحد من ملوكها قدرة على دفعه ومقاومته.
هولاكو بعد الهزيمة
حاول هولاكو أن يثأر لهزيمة جيشه في عين جالوت، ويعيد للمغول هيبتهم في النفوس؛ فأرسل جيشا إلى حلب فأغار عليها ونهبها، ولكنه تعرّض للهزيمة بالقرب من حمص في المحرم (659هـ = ديسمبر 1260م) فارتد إلى ما وراء نهر الفرات.
ولم تساعد الأحوال السياسية المغولية في أن يعيد هولاكو غزواته على الشام ويستكمل ما بدأه، فبعد موت "منكوقا آن" تنازع أمراء البيت الحاكم السلطة وانقسمت الإمبراطورية المغولية إلى ثلاث خانات مستقلة، استقل هولاكو بواحدة منها هي خانية فارس، ثم دخل هولاكو في صراع مع "بركة خان" القبيلة الذهبية، مغول القبجاق (جنوب روسيا) واشتعلت الحرب بينهما.
وكان هولاكو يعد نفسه نصيرًا وحاميًا للمسيحية بتأثير زوجته "طقز خاتون" في الوقت الذي أسلم فيه بركة خان ومال إلى نصرة المسلمين، وأدى هذا الصراع إلى تعطل النشاط الحربي لهولاكو في الشام، ثم ما لبث أن أدى نشوب الحروب الداخلية بين أمراء المغول إلى توقف عمليات الغزو والتوسع تماما.
هولاكو يشجع العلماء
وعلى الرغم مما اشتهر به هولاكو من قوة وغلظة وإسراف في القتل وسفك الدماء، فإنه لم يغفل تشجيع رجال الأدب والعلم، فحظي "الجويني" المؤرخ الفارسي المعروف بتقدير هولاكو، ونجح في إقناع هولاكو بألا يحرق مكتبة الإسماعيلية، وكان من نتيجة ارتحاله إلى منغوليا ووقوفه على الأحوال هناك أن ألّف كتاب "تاريخ جنكيز خان وأخلافه". ويؤثر عنه أنه كلف العالم الرياضي "نصير الدين الطوسي" ببناء مرصد في مدينة "مراغة" زوده بأدق الأجهزة المعروفة في زمانه، ويقال بأن المكتبة التي أنشأها الطوسي وألحقها بالمرصد كانت تحوي ما يزيد على 400 ألف مجلد.
وفاة هولاكو
وفي (19 من ربيع الأول 663هـ 9 من يناير 1265م) توفي هولاكو بالقرب من مراغة وهو في الثامنة والأربعين من عمره، تاركا لأبنائه وأحفاده مملكة فسيحة عرفت بإيلخانية فارس، ولم تلبث زوجته "طقز خاتون" أن لحقت به، وحزن لوفاتهما المسيحيون بالشرق، وعدّوهما من القديسين