عبد الباقي يوسـف- الثرى
انتقام المرأة
يحكى أن هند ابنة النعمان كانت أحسن أهل زمانها, فوُصف للحجاج حسنها, فأنفذ إليها بخطبها, وبذل لها مالا جزيلا إلى أن تزوج بها, و شرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم, و دخل بها ثم إنها انحدرت معه إلى بلد أبيها المعرة, و كانت هند فصيحة أديبة, فأقام بها الحجاج بالمعرة مدة طويلة, ثم إن الحجاج رحل بها إلى العراق, فأقامت معه ما شاء الله, ثم دخل عليها في بعض الأيام و هي تنظر في المرآة و تقول:
وماهند إلا مهرة سليــلة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت فحلا فلله درها وإن ولدت بغلا فجاء به البغل
فانصرف الحجاج راجعا و لم يدخل عليها, دون أن تعلم به. وأراد طلاقها فأنفذ إليها عبد الله بن طاهر, وأنفذ لها مائتي ألف درهم وهي التي كانت لها عليه, وقال: يا بن طاهر طلقها بكلمتين و لا تزد عليهما.
دخل عبد الله بن طاهر عليها, فقال لها : يقول لك أبو محمد الحجاج : كنتِ فبنتِ, وهذه المائتا ألف درهم التي كانت لك قبله, فقالت: اعلم يا ابن طاهر, إنا والله كنا فما حمدنا, و بتنا فما ندمنا, و هذه المائتا درهم التي جئت بها, بشارة لك بخلاصي من كلب بني ثقيف.
ثم بعد ذلك بُـلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان خبرها ووُصف له جمالها , فأرسل إليها يخطبها , فأرسلت إليه كتابا تقول فيه بعد الثناء عليه : اعلم يا أمير المؤمنين إن الإناء ولغ فيها الكلب .
فلما قرأ عبد الملك الكتاب ضحك من قولها وكتب إليها يقول : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا, إحداهن بالتراب, فاغسلي الإناء يحل الاستعمال.
فلما قرأت كتاب أمير المؤمنين لم يمكنها المخالفة, فكتبت إليه بعد الثناء عليه: يا أمير المؤمنين والله لا أحل العقد إلا بشرط, فإن قلت ما هو الشرط قلت أن يقود الحجاج محملي من المعرة إلى بلدك التي أنت فيها, ويكون ماشيا حافيا بحليته التي كان فيها أولا.
فلما قرأ عبد الملك ذلك الكتاب ضحك ضحكا شديداً, وأنفذ إلى الحجاج وأمره بذلك, فلما قرأ الحجاج رسالة أمير المؤمنين أجاب وامتثل الأمر ولم يخالف, وأنفذ إلى هند يأمرها بالتجهز, فتجهزت وسار الحجاج في موكبه حتى وصل المعرة بلد هند, فركبت في محمل الزفاف, وركب حولها جواريها وخدمها, وأخذ الحجاج بزمام البعير يقوده ويشير بها, فجعلت هند تتواغد عليه, وتضحك مع الهيفاء دايتها, ثم إنها قالت للهيفاء: يا داية اكشفي لي سجف المحمل, فكشفته, فوقع وجهها في وجه الحجاج فضحكت عليه, فأنشأ يقول:
فإن تضحكي مني فيا طول ليلة تركتك فيها كالقباء المفرج
أجابته هند تقول:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسب والعز مرتجع إذا النفوس وقاها الله من عطب
لم تزل كذلك تضحك وتلعب إلى أن قربت من بلد الخليفة , فرمت بدينار على الأرض , ونادت : ياجمال إنه قد سقط منا درهم فارفعه إلينا , فنظر الحجاج إلى الأرض فلم يجد إلا دينارا فقال : إنما هو دينار , فقالت : بل هو درهم , قال : بل دينار .
فقالت: الحمد لله, سقط منا درهم فعوضنا الله دينارا, فخجل الحجاج وسكت, ولم يرد جوابا, ثم دخل بها على عبد الملك بن مروان فتزوج بها 1 .
ذكاء المرأة
يروى أن رجلا أراد أن يختبر ذكاء زوجته فقال لها وهي صاعدة السلم : أنت طالق إن صعدت , وطالق إن نزلت , وطالق إن وقفت .
فشردت المرأة قليلا ثم رمت نفسها على الأرض .
دُهش زوجها وقال : فداك أبي وأمي , إن مات الإمام مالك احتاج إليك أهل المدينة في أحكامهم .
فصاحة المرأة
ويحكى عن أبي عبد الله النميري أنه قال : كنت يوما مع المأمون وكان بالكوفة , فركب للصيد ومعه سرية من العسكر , فبينما هو سائر إذ لاحت له طريدة , فأطلق عنان جواده وكان على سابق من الخيل , فأشرف على نهر ماء الفرات , فإذا هو بجارية عربية خماسية القد , قاعدة النهد كأنها القمر ليلة تمامه , وبيدها قربة قد ملأتها ماء , وحملتها على كتفها , وصعدت من حافة النهر , فانحل وكاؤها , فصاحت برفيع صوتها :
ياأبت أدرك فاها , قد غلبني فوها , لاطاقة لي بفيها .
قال فعجب المأمون من فصاحتها ورمت الجارية القربة من يدها , فقال لها المأمون : ياجارية من أي العرب أنت ؟
قالت : أنا من بني كلاب
قال: وما الذي حملك أن تكوني من الكلاب
قالت : والله لست من الكلاب , وإنما أنا من قوم كرام , غير
لئام , يقرون الضيف , ويضربون السيف .
ثم قالت: يافتى من أي الناس أنت
فقال : أو عندك علم بالأنساب ؟
قالت : نعـــم
قال لها : أنا من مضــر الحمراء
قالت : مــــــن أي مضــــــر
قال : مـن أكرمها نسـبا , وأعظمها حسبا , وخيرها أما
وأبا , ممن تهابه مضر كلها .
قالت : أظنك من كنانــة
قال : أنا مـــــن كنانـة
قالت: فمن أي كنانـــــة
قال : أكرمها مولدا , و أشرفها محتدا , وأطولها في المكرمات
يدا , ممن تهابه كنانة وتخافه .
فقالت: إذن أنت من قريش
قال : أنا مـــــن قريــــش
قالت : مـن أي قريش
قال : من أجملها ذكرا وأعظمها فخرا , ممن تهابه قريش كلها
وتخشاه .
قالت : أنت والله من بني هاشــــم
قال : أنا مــــن بني هاشــــــــم
قالـت : مـــن أي هاشــــم
قال : مـن أعلاها منزلة , وأشرفها قبيلة , ممن تهابه هاشم
وتخافه . قال فعند ذلك قبّلت الأرض
وقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين , وخليفة رب العالمين .
قال فعجب المأمون وطرب طربا عظيما
وقال: والله لأتزوجن بهذه الجارية , لأنها من أكبر الغنائم .
ووقف حتى تلاقته العساكر فنزل هناك وأنفذ خلف أبيها
وخطبها منه فزوجه بها , وأخذها وعاد مسرورا . وهي
والدة ولده العباس 2 .
وصيـة امرأة لابنتها
ولعلي أذكر وصية السيدة / أمامة بنت الحارث / زوج عوف بن محلم الشيباني لابنتها أم إياس بنت عوف عندما هيأتها إلى زوجها / عمرو بن عوف بن حجر / قائلة لها :
أي بنية إن الوصية لو تركت لفضل أدب تركت لذلك منك , ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل , ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما أليها كنتِ أغنى الناس عنه , ولكن النساء للرجال خلقن , ولهن خلق الرجال .
ثم تضيف بكل حرص : أي بنية , إنك فارقت الجو الذي منه خرجت , وخلفت العش الذي فيه درجت إلى رجل لم تعرفيه وقرين لن تألفيه فأصبح بملكه عليك رقيبا ومليكا , فكوني له أمة يكن لك عبدا .
أي بنية احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرا وذكرا :
1 - الصحبة بالقناعة .
2 - المعاشرة بحسن السمع والطاعة .
3 - التعهد لموقع عينيه فلا تقع عينه منك على قبيح .
4 - التفقد لموضع أنفه , فلا يشم منك إلا أطيب ريح , والكحل أحسن الحسن , والماء أطيب الطيب المفقود .
5 - التعهد لوقت طعامه فإن حرارة الجوع ملهبة , والهدوء عند منامه , فإن تنغيص النوم مغضبة .
6 - الاحتفاظ ببيته وماله والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله , فإن الاحتفاظ بالمال , حسن التقدير والإرعاء على العيل والحشم الجميل , حسن التدبير .
7 - لاتفشي له سرا فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره .
8 - لاتعصي له أمرا فإنك إن عصيت أمره أوغرت صدره .
9 - ثم اتقي الفرح إن كان ترحا , والاكتئاب عنده إن كان فرحا , فإن الخصلة الأولى من التقصير , والثانية من التكبير .
10 - كوني أشد ما تكونين له مرافقة, يكن أطول ما تكونينه له موافقة , واعلمي إنك ما تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك وهواه على هوا ك فيما أحببت وكرهت , والله يخير لك .
نحن كالأرض لزارعينا
رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال :" كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة ، فإذا ولدتْ بنتاً ، رمت بها في الحفرة ، وردت التراب عليها وإذا ولدت ولداً جلبته ". (3)
ويُروى في كتب التراث أن أبا حمزة الضبي قد هجر خيمة امرأته وكان يقيل ويبيت عند جيران له ، حين ولدت امرأته بنتاً ، فمر يوماً بخبائها وإذا هي ترقص ابنتها وتقول :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أ لاّ نلد البنينا تاالله ما ذلك في أيدينـا
وإنما نأخذ ما أُعطينا ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا (4)
وبمكن ملاحظة أن المرأة مرت في ظروف بالغة القسوة عبر التاريخ بيد أنها استطاعت أن تترك سطورا مضيئة في تاريخها ( 5 ) .
المراجــــــع
1 - المستطرف في كل فن مستظرف - لمؤلفه شهاب الدين أبي الفتح محمد بن أحمد
الأبشيهي - منشورات وزارة الثقافة السورية
2 - المرجـع السابــق
3 - انظر تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 670 بلوغ الأرب ج 2 ، ص 43
4 - الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج 1 ، ص 104
5 - راجع الوسائل 265:15 , وأصول الكافي .