أصلُ اللُّغة العربيَّة و نشأتها
اللغة العربية هي إحدى اللغات الساميَّة , وقد بقيت أقرب تلك اللُّغات إلى الأصل , وإن كانت أحدثَها نشأةً و تاريخاً , وذلك لاحتباس العرب في صحرائهم و اعتصامهم بها دونَ سائر الشعوب , فلم تتعرَّض لما تعرَّضت لهُ اللغات الساميَّة الأخرى من اختلاط.
إلا أنَّ أوائلَ تلك اللغة لا تزالُ مطويَّة في مجاهل التاريخ , وجلُّ ما نعرفه أن هُناك لغتين تفرَّعت عنهُما سائر اللهجات العربية هُما :
لغة الجنوب أو اللغة الحِمْيرية , ولغة الشمال أو اللغة المُضريَّة .
لغة الجنوب و لغة الشمال : كانت لغة اليمن القحطانية تختلف عن لغة الحجاز العدنانية , في الأوضاع و التصاريف وأحوال الاشتقاق , حتى قال أبو عمرو بن العلاء (770م) : "ليست لغة حِمْير بلغتنا ولا عربيّتهم بعربيَّتنا".
وكانت لغة اليمن أكثر اتصالاً باللغة الحبشيَّة و الأكّديّة , ولغة الحجاز أكثر اتصالاً باللغة العبريّة والنبطية .
وقد ذهب بعضُ العلماء إلى أن لغة الجنوب القحطانية كانت أصلاً من أصول العدنانية , واعتمدوا في قولهم هذا على النقوش اليمنية المكتشفة حديثاً , فقد وجدوا فيها عبارات تتَّفقُ والعربية المُضريّة لفظاً و تركيباً .
ففي أقدم النقوش مئاتٌ من الكلمات مُشتركة بين اللغتين و بعضها مُطابق في رسمه ومعناه لما في العربية مثل , أخ , أخت , وثَن , شِبل , أسد , شهر . . .
تطور اللغة المُضريَّة : وقد تطورت اللغة المضرية الحجازية بالتمازج و الاختلاط حتى وصلت إلى الحالة التي رأينا صورتها في الأدب العربي الجاهليّ و في القرآن .
وإليكُم الخطوات التي خطتها في سبيل اكتمالها :
1. اختلاط الحِمْيرية بالعدنانية : لقد ثبت أن قبائل جنوبية هجرت ديارها و انتشرت في الحجاز و شمال الجزيرة قبل الميلاد , وثبت أن عرب الجنوب كثيراً ما ارتادوا الدّيار الشمالية للإتجار , فاختلط القحطانيون بالعدنانيين اختلاطاً شديداً , وتقاربت اللغتان الجِمْيرية و المضرية للتفاهُم , واشتدَّ التفاعُل و التطور مدّة خمسة قرون تقريباً .
وقد تغلَّبت المُضرية العدنانية أخيراً على الحِمْيرية القحطانية لانهيار دولة الجنوب , ولكن المُضريَّة خرجت من ذلك الاختلاط أكثر اتساعاً , وأكثر انفتاحاً على الحضارة و أسبابها.
2. اللهجات القبليَّة : وكانت للقبائل العربية لهجات مختلفة الفروع مُتحدة الأصول , فمن ذلك ما كان بالإبدال كقولهم : (الخِباء) , (الخِباع) , ومنها ما كان بتقديم بعض أحرف الكلمة كقولهم : (صاعقة) , (صاقعة) , و من ذلك ما كان في أوجه الإعراب كنصب خبر ليس عند الحجازيّين مُطلقاً و رفعةً عند تميم إذا اقترن بإلّا . . . إلى غير ذلك مما عدّ له.
وكان للعرب إلى ججانب تلك اللهجات هنواتٌ كثيرة منها غمغمة قضاعة , وهي عدم تمييز حروف الكلمات و ظهورها في أثناء الكلام , و عنعنةُ تميم و هي إبدال العين من الهمزة إذا وقعت في أول الكلمة كقولك في : (أمان) , ( عمان) . إلى غير ذلك و هو كثير .
3. اللغة المثالية : وتكونت بجانب اللهجات القبلية التي تنطق بها كل قبيلة ولا يعسر فهمها على سائر القبائل , لغة مثالية خالية من العيوب و الهنوات هي لغة المجتمعات الأدبية , ولغة الشعر و الخطابة , انصهرت فيها جميع اللهجات و اللغات العربية , و تكونت من أحسن مافي تلك اللغات من عناصر , ونفضت عنها جميع العيوب التي وسمت سائر اللغات , فبرزت أحسن بروزٍ في القرآن و في ما وصل إلينا من أدب الجاهلية الرَّفيع .
وقد طغت على تلك اللغة المثالية لهجةُ قريش لأسباب سنأتي على ذكرها , و كانت لهجةُ قريش أقـلّ اللهجات عيوباً و هنوات و أفصحها بياناً.
أمَّا أسباب تكوين هذه اللغة العربية الأدبية فكثيرةٌ منهــا :
1. الأسواق : وهي أمكنة في شتى أنحاء الجزيرة كان العرب يختلفون إليها في أوقات مُعيَّنة لشؤون تجارية و قضائية و نسَبية و غيرها , فيعالجون فيها مفادات الأسرى و الخصومات , و ينصرفون إلى المُفاخرة و المُنافرة بالشعر و الخُطب في الحسب و النسب و الكرَم و الفصاحة و الجمال و الشجاعة , كما ينصرفون إلى مسابقات الخيول و إقامة الألعاب , وتبادُل عروض التجارة و غير ذلك .
فكانت تلك الأسواق أشبه بمعارض عامَّة يفِدُ إليها الناس من مختلف أنحاء الجزيرة , ومن أشهرهـا :
سـوق عُـكـاظ قُربَ مكّة
و مجنّة و ذو المجاز و كلاهُما في ضواحي مكّة أيضاً.
أما سوق عكاظ فهي ملكـةُ الأسواق , وكانت تقام من أوّل ذي العقدة إلى العشرين منه , و كان يجتمعُ فيها الأشراف و الزعماء للمُتاجرة و المُنافرة و مُفاداة الأسرى و التحكيم في الخصومات و أداء الحج .
وكان الكلام فيها بلُغة يفهمُها الجميع , يتوخَّى الشاعر و الخطيبُ الألفاظَ العامَّة و الأساليب العالية في لغةٍ مثالية موحَّدة تروقُ كُلَّ سامع , ولا ينفرُ منها أو يستغربها أحد.
فكان من ثمَّ للأسواق أثر بليغ في توحيد اللسان و تعميم اللُّغة المثالية , و تغليب لغة قريش على سائر اللغات , لأنَّ أشهر الأسواق في بلادهم .
2. قريش :كانت مكة محطَّاً للقوافل من عهدٍ عهيد , وكانت موطن قريش موضوع إجلال العرب لما ورثته من شرف سُؤدد و ثراء , كما كانت مقام الكعبـة يفِدُ إليها الحجاجُ من جميع الآفاق.
فكان لقريش نصيبٌ وافرٌ في توحيد اللغة , تهذّبُ لهجتها بما تأخذه من لغات القبائل الوافدة على بلادها , ممَّا خفَّ على اللسان و عذُبَ في المسمَع , و كان العربُ يُقلّدون لسانها , والشعراء و الخُطباء يُؤثرونَ ما هو من ذلك اللسان لأنَّ أهمَّ الأسواق كانت في قريش و المُحكّمين فيها منهم أحياناً كثيرة .
وكان الشعرُ ينتشرُ من تلك الأصقاع في جميع نواحي البلاد حاملاً إليها لهجةَ قريش و أسلوبَها .
وهـكـذا كانت اللُّغة المُشتركة المثاليَّة قريبةً من لغة قريش كُلَّ القُرب .
3 . الحضارت المُتاخمـة : لم ينحصر العربُ في جزيرتهم بمعزل عن تأثيرات الحضارات المُتاخمة , بل كانوا في احتكاك مع من جاورهُم .
فأُضيفت إلى لغة عدنان ثروة الحضارة القحطانية و حضارة مصر و فارس و الروم و الحبشة عن طريق التجارة أو طريق التنافُس بين الحيرة و غسان , و الفُرس و الروم من ورائهما .
فكانت اللغة تواصلُ تطوُّرها مُكمِّلـةً ما ينقصُها بما تأخذهُ من لغات تلك الحضارات الواسعة النطاق .
وهــكـــذا وصلت اللغة العربيـة إلى عصر الادب الجاهليّ , راقيةً , مزوّدة بمحاسن لُغاتٍ عديدة و حضارات كثيرة , تستطيع التعبير عن كُلِّ شيء مهما دقّ و سما , و تستطيعُ الإفصاحَ عن خلجات النفوس ولواعج الصُّدور , و تصوير المناظر و الخواطـر ,
وما إن ظهر الــــقـــرآن فيها حتى ثبَّتَـها و عمل على حفظها بالرُّغم من تقلُّبات الأيَّام و أحداث الزّمـان . ..
وتمتازُ تلك اللُّغة العربيَّـة بأنها أعرابيَّـةٌ اشتقاقيَّـة فيها ضروبٌ من النَّحتِ و القلب و الترادُف , وأنواعٌ من المجاز و الكناية وما أشبه .
وقد قال عنها المُستشرق الكبير بروكلمن : (تمتازُ لغة الشعر العربيّ بثروةٍ واسعة في الصُّور النحويَّة (الإعراب) ,
وتُعدُّ أرقى اللغات الساميّة تطوُّراً من حيث تركيبات الجُمل ودقة التعبير ,
أمَّا المُفردات فهي فيها غنيَّةٌ غنىً يسترعي الإنتباه , ولا بدَع فهي نهرٌ تصبُّ فيه الجداول من شتَّى القبائل ) .
"""""
"""
""
الكتابـة العربيَّـة
لم توضَع الحروف العربيَّة وضعاً , ولكنها تولَّدَت بتنوُّع الحرف النبطيّ الذي كان شائعاً في شمالي جزيرة العرب قبل الإسلام .
فتكون حلقاتُ سلسلة الخط العربي ثلاثـاً ..
أُولاها الخطُّ المصريّ القديم بأنواعه الثلاثة ( الهيروغليفي , و الهيراطيقي , و الديموطيقيّ) ,
وثانيها الخط الفينيقيّ , و ثالثُـها الخط المُسـند .
والمُسند عدَّة أنواع عُرفَ منها أربعة : الخط الصفوي , و الخط الثَّموديَ , و الخط اللحيانيّ , و الخط السَّـبَئيّ أو الحِمْيريّ .
ومن المُسند تفرَّع الخط الكِنديّ و النبطيّ , و من النبطيّ الخط الحيريّ و الأنباريّ , ومنهُ الحجازي (وهو النسخيّ العربيّ) .
وأمَّا الخط الكـوفي فهو نتيجة هندسة و انتظام في الخط الحجازي .
وكان العربُ يكتبونَ قديماً في أكتاف الإبل , وفي العُسُب _ وهو جريد النَّخل يكشفون الخوصَ عنهُ و يكتبون في الطرف العريض منه ,
كما كانوا يكتبون في اللخاف _ وهي الحجارة البيضاء الدَّقيقة .
ويكتبون أحياناً في الجبد و قطع الخزف و ألواح من الخشب , وفي القرطاس المصريّ , أي البرْديّ
’’
انتهينا من تطوُّر اللغة , وأعتذر للإطالة و تقسيم المُشاركات لأنني أكتبها بيدي نقلاً من كتابٍ قديمٍ بصفحاته الصَّفراء المُهترءة التي تفوق الألفي صفحة
لكنَّهُ ثريٌّ بمُحتواه و وفرة خيراته الأدبيَّة .. .
وسوف أنتقل بكُم إن شاء الله غداً إلى :
الأدب العربي و نشأته و تطوُّره و أطواره التاريخية
"""
""
~ الأدب الــعــــربـــي ~
1. ما هو الأدب : استُعملت لفظة "أدب" عند العرب للدلالة على معانٍ مختلفة فقد دلَّة في عهد الجاهلية على الدَّعاء إلى المأدُبة , كما دلَّت في الجاهلية و الإسلام على الخُلق النبيل الكريم وما يتركه من أثرٍ في الحياة العامة و الخاصة .
ثمّض أُطلقت اللفظة على تهذيب النفس و تعليم المرء ما أُثِر من المحامد و المعارف و الشعر.
وفي القرن التاسع وما بعد استُعملت للدلالة على جُملة العلوم والفنون من فلسفة و رياضة و فلك و كيمياء و طبّ و أخبار و أنساب و شعر و غير ذلك من معارف سامية تفعلُ في تحسين العلاقات الاجتماعية.
ولمَّا كان القرن الثاني عشر استُعملت لفظة "أدب" في الشعر و النثر وما يتَّصلُ بهما من نحوٍ و علوم لُغة و عروض و بلاغة . و نقدٍ أدبيّ.
والمُرادُ بالأدب اليوم أمـران : فـنُّ الكتابة , والآثار التي يتجلَّى فيها ذلك الفنّ .
ومن ثمَّ يُمكننا تحديد الأدب بقولنا ( الأدب هو مجموعة الآثار المكتوبة التي يتجلَّى فيها العقل الإنساني بالإنشاء أو الفنّ الكتابي ).
فليس الأدبُ إذن رصفَ ألفاظٍ فحسب , ولا هو حشدُ أفكارٍ فحسب , بل هو الفنُّ الذي يُحسنُ فيه الإنسان التعبير عن حُســـن التفكير .
والأدب الخالص يدلُّ على شخصية الأديب ويكشفُ عن صوَر الحياة و يُعـبّر عن الخواطر و المشاعر النفسيَّة , , إنَّهُ صورة ناطقة لحياة الأفراد و الأمم .
2. الأدب و سائر الفـنــون : الأدب فـــنٌّ كسائر الفنون , في تمثيل المرئيَّات و غير المرئيات من ناحية الجمال .
فكما أن العلوم تطلبث الحقيقة مُعتمدة العقل التفكيريَّ , وكما أن الصناعات تطلبُ النافع مُعتمدة العقل العمليَّ ,
كـذلك الـفـــن , يطلبُ الـجــمـالَ مُعتمداً جميع الـقـوى البـشريَّـة . ..
فإنَّ الجمال الفنيَّ يروق العقل و الشعور و المُخيّلة معاً : إنَّـهُ يُخاطبُ الإنسانَ في كُلِّيَّتـه .
والفنون الجـميلة خمســة : الشعر و النقش و الرسم و الهندسة و الموسيقى .
و لكُلّ فنّ طريقة في التعبير عن الجمال .
وأمّا الشعر (الأدب الشعريّ) فطريقتهُ الكــلام المكتوب و المُنـشَد .
الـــجــــمـــال الـفـنــيّ : و الجمالُ الفني هو تقليدُ الطبيعة تقليداً إباحياً تمثيلياً حياً .
فعلى الفن أن يُنشئَ فينا عاطفة الحياة و الحقيقة لا الوهم بهما فقــط , فيُقدم للقارئ أو السامع أو الشاهد أثراً حيـاً .
ولا يقوم ذلك بتقليد الطبيعة تقليداً أعمى يحوي جميع التفاصيل , بل يقوم باختيار ما يملك قـوَّة إيحاءٍ و يحتوي ضمناً على التفاصيل الأخرى التي إذا ذُكرَت كلها تجعلُ الأثرَ ضئيلاً .
ثـمَّ يجب أن يكون تقليد الطبيعة إيحائياً أو تفسيرياً فيُعبّر عن العواطف التي يثيرها الموقف .
وهذا يتطلَّبُ ممن الكاتب أن يشعُر بشعور الأشخاص الذين يتكلَّم عنهم , وأن يصغي لصوت الطبيعة الخفـي فيتفهَّـم معانيه و يُعبّـر عنها .
أخـيراً لابُدَّ للفن من التمثيل , ولا يعني ذلك تجميلَ الطبيعة و تغيير صفحتها بل يعني تكميل ما بدأت به و تقوية خطوطه و توسيعه .
3. عـــنـــاصــــر الأدب : يتـألف الأدب من أفكار و أخْيِـلَـة و عواطف تصدر عن قوى الإنسان الأدبية / العقل و المُخيّلة و الشعور , وتخضع لسُـننِ الذوق السليم , ويُعبَّرُ عنها بكلامٍ فصيحٍ و أسلوبٍ متينٍ جَميل .
أما العقل فهو يُنشئُ الأفكار و يُقيم الأحكام و الأقيسة .
و من صفات الأفكار أن تكون واضحةً , دقيقة , جديدة , قويَّة , عميقة , سامية , ومن صفات الأقيسة أن تكونَ صحيحـة .
فيتّـضحُ أنَّ للعقل أهمية كُبرى في الأدب , فهو الذي يضعُ أساس الأدب , أي الفكر . وهو يضبط الشعور , ويسيطر على المخيلة فيردُّ جموحها إلى حدود الجَمـال المـعـقــول .
لأنَّ الـفـوضــى قتلٌ للجـمـال و الآثار الأدبية الخالية من الفكر , أو المشحونة ضلالاً لا تُحدّث أدباً حقيقياً , و إن كان كاتبها من أسياد الصِّناعـة اللَّفـظيَّـة .
فإنَّ الحقيقة من أهم عناصر الجمال , و لاااا جمالَ بلا حقيقــة .
وأمَّــا المُخيّلة فهي تنشئ صوَر الأشياء , تكسو الأفكار صوراً حسيّـة أو تبعثُ في الجمادِ روحاً و حياةً . ومن صفات الصوَر أن تكون جديــدة سائغة , قويَّـة الإيحاء .
وأمَّــا الشعور فهو الذي ينشئُ العواطف : الانفعالات حسنةً , و سيّئة . و جمااالُها في صدقهـا .
وأمَّـــا الذوق فهو ميزان الآثار الأدبيّـة يحكمُ في جمالها و عيوبها من حيث المعنى و المبنى .
و من صفات الذوق , التنبُّه , و الدقة , و الإرهاف , و الإصابة .
فـإن توفّرت في كاتبٍ أو شاعرٍ قوى أدبيَّـة تُمكّنهُ من إنتاج آثارٍ فريدةٍ عُـدَّ عبقريَّـاً .
منقول للفائدة
**************************************************