مامعنى الأدب الساخر
ربما يرسخ في اعتقاد البعض ،أن الأدب الساخر ليس جنسا مستقلا ينتعش تحت مظلة قائمة، بل هو أسلوب ينتسب قطاره إلى صنوف من المحطات الأدبية "المتزمتة" كالشعر والقصة والمقالة أو التوقيعات .بيد أنه يسري في اعتقادي أن هذا المفهوم ظلم وتهميش للأدب الساخر، وإلغاء لبصمته على تراب الواقع الإبداعي .فإذا سميناه أدبا ونعتناه بهذه الصفة المندرجة معانيها على أرضية الفكر ،نكون بذلك قد ثبتنا ركائز حقيقته ككائن إبداعي له جسد بارز تنتمي تشكيلة تفاصيله إلى منبع الأدب العربي،بيد أن قفزاته المتناثرة على فروع وجهاته المتنوعة ،قد يضلل نظرة الكثيرين إليه كجنس أدبي رفيع ، فيرمونه بحجر الإعتقادات الواهية .وإذا سعينا لتفسير أحجية له عالقة جدائلها في سدر الضبابية ،فلاتفسير نراه أوضح من أن نصفه أي الأدب الساخر ،بالرداء السحري الذي تلبسه الكلمات ،المتناسلة في أوج الظروف الإجتماعية الصاخبة ،فتبدو هادئة ،على سواحل الراحة، وما تحمله بين سطورها من آهات وزفرات، يظل رهين الخفاء واطروحة التجريدية. وللأسلوب الساخر مايميزه ويضفي على كينونته من سمة جمالية ساخرة تتمثل في انتقاء الكلمات الطريفة ،وتصفيتها بغربال المعرفة في حضرة الموهبة بعيدا عن السطحية و التهريج ،و تعابيرها وسيلة حديدية حارقة ،إن اشتغلت محركاتها ،ضربت معاولها في عمق الأحداث واستخرجت من أرضهها كنوزا لامعة ، تنثر عطر الإبتسامة في الشفاه . فهو إذن أدب له ماهيته وخصوصيته المتفردة التي يعكس ماؤها صورا لذاتية الكاتب الساخر ،واجتماعية تستمد مفاهيمها من المحيط الإجتماعي مثله مثل الأدب غير الساخر الذي تعددت أجناسه وفقا لما تمليه الظروف على الكاتب من أشكال وألوان.وإلا فما الفرق بينه والنكتة والطرفة العابرة ،إذن فيلكتفي بها الكاتب تعبيرا شفهيا عما يكتنفه من مشاعر وحنقة رافضة لبعض تصرفات مزرية دون الحاجة إلى التوغل في أعماق البلاغة لاصطياد درر الكلمات وأقصد بذلك الشعر الهجائي الساخر والقصة القصيرة باللغة الفصحى .أما ماعداه من إبداعات شعبية في كلا الجنسين باللغة الشعبية ،فإن الصياغة بالتأكيد لن تكون عشوائية إنما مبنية جدرانها على أساس الخبرةالإكتسابية الواسعة والحدس الحقيقي .وقد يتساءل البعض عن السر الذي جعل من السخرية أدبا رغم ما يصطدم بينهما من مفارقات .ورغم أن الله عزوجل قد نهى عنها في قوله تعالى :" ولايسخر قوم من قوم "..
ولكي نضع المتسائل على رصيف اليقين والمعرفة ،وجب أن نشحن دماغه بما اكتسبناه من خبرات متواضعة من جيب الزمن ونقول له أي نعم أن السخرية منبوذة في الدين الحنيف وأيضا تدل على سفاهة صاحبها ،لكن الذي جعلها ترتقي على سلالم الفكر والأدب، هو كونها تنفيسا بآلية الضحك والطرافة، عماَ تكتمه الصدور من آلام وحرمان جراء مافرض على الشعوب من تكميم للأفواه عبر الأزمنة من لدن حكومات جائرة .كذلك لأنها صارت تتناول في قوالب سامية كالشعر والقصة .لذا اجتثت السخرية لها مكانا مرموقا وأصبحت تسمى أدبا ساخرا . وفي قصص حمار الحكيم للكاتب الجزائري أحمد رضا حوحو ،ما يكشف الستار عن عدة قضايا سياسية ،اجتماعية واقتصادية ، رغم أن البطل ...حمار.ولأن السخرية قد غدت وسيلة تنوير وتثقيف لأفراد المجتمع ،فأصبح لزاما على الكاتب الساخر أن يؤدي رسالته بما يمتلك نبضه من أحاسيس متدفقة ،وأنامله من زمام للأمور. لكن إذا مالت تطلعاته الشخصية خلف مبتغياته، ونواياه من كوة ضيقة، ووجه قلمه صوب الناس كمدفع رشاش دون اهتمام بمشاعر أحد ،هنا فقط يتحول الأدب إلى قلة أدب ،ويبتعد عن مغزاه الذي تحدد وجوده لأجله ،فيأفل نجمه ،ولن يقابل صنيع الكاتب بغير الإزدراء والرفض .
خلاصة القول :كما أن هناك رسما كاريكاتوريا قد أخذ حصته من التقدير والإهتمام، في كنف الإبداع التعبيري الإجتماعي ،فهناك أيضا على الضفة المقابلة ،أدب ساخر ،لايزال ينتظر الإفراج من سجن التبعية للأدب غير الساخر
**************************************************