ابو الطيب المتنبي وكافور

أبو الطيب في مصر
نبي في بلاد الوحي لا يوحى إليه
بقلم الأستاذ محمد شوكت التوني

كانت حالة مصرالاجتماعية والسياسية في ذلك العصر على أسوأ ما تكون حالات الأمم في عصور الانحلال. فكانت الدولة العباسية قد طال بها الزمن وبدلت بعد منعتها تفككا وبعد عزتها ذلة. وأدبرت عنها الدنيا وهانت سطوتها. وولى الموالي الأقطار. وأي شر على الأمم وأي المصائب على الدول أعظم من أن يحكمها العبيد ويسودها الأذلاء؟
وكانت مصر قد آلت ولايتها إلى محمد بن طغج بعد أن وليها بعض الموالي أمثال أبي منصور تكين الخزري وأحمد بن كيغلغ، و محمد بن كغج وإن لم يكن من الموالي، وهو من نسل ملوك فرغانة إلا أنه لم يكن الكفء لولاية مصر وقد استقل بها بعد قليل عن الخلافة العباسية. ولما انتهى أمره بالوفاة وتولى بعده أبوقاسم أنوجور ابنه وكان صغيرا قام كافوربتدبير الدولة عنه وكذلك لما توفى أبو قاسم وتولى أخوه أبو الحسن علي وكان صغيرًا قام بتدبير الملك كافور فلما مات أبو الحسن استقل كافور بالملك.

من هو كافور؟
اختلفت أقوال الرواة في كافور وقد أجمعوا أولا على أنه كان عبدًا خصيا وأنه كان من موالي محمد بن طغج الإخشيد ولكن بعضهم أقذع في ذمه ووضعه.
على أن المعقول استقراء ومنطقا أن يكون كافور قد وصل إلى تدبير الملك في عهد الملكين الصغيرين عن جدارة حقة خاصة، وقد روي أن محمد بن طغج قد ولاه قيادة الجيش الذي أرسله لمقاتلة سيف الدولة في عام 333هـ عند مهاجمته لحمص ودمشق في سوريا وكذلك تولى قيادة الجيش الذي حارب سيف الدولة عندما استولى على دمشق في ولاية أبي قاسم وانتصر على سيف الدولة فليس عبدًا عاديًا ذلك الذي لا يجد محمد بن طغج من هو أكفأ منه لقيادة الجيش ومحاربة سيف الدولة. وليس عبدًا عاديًا الذي يدبر أمر مصر من 334هـ إلى 357 أي نحو ثلاث وعشرين سنة. إذن لا بد أن يكون كافور شخصية كبيرة فيها ذكاء ومضاء وقوة وهمة وطموح وحزم وعزم. والذي عرف عنه أنه قد كان معنيا بالعلم والأدب. وكان من عنايته أن بعث في استقدام "أبي الطيب المتنبي إلى مصر".

استقدام المتنبي
وكان الثرى قد جف بين المتنبي وسيف الدولة إذ بقي يمدحه وهو ملازمه مدى تسع سنوات وكان يؤمل أن يقطعه ولاية يتولى أمرها. وقد كان المتنبي بعيد المطامع يرمي بآماله إلى مدى واسع في الحياة. فقد نشأ نشأة وضيعة. وكان أبوه سقاء. فتعلم ونبغ وتلفت حوله فلم يجد له ندًا. وقيل إن إعجابه ببلاغته قد جعله يدعي النبوة وقيل إنه وضع كتابا وجعله "قرآنًا".
وإلى هذا الإعجاب بأدبه كان يظن نفسه قد خلق لمهمة اجتماعية سياسية فكان يكثر من وصف نفسه بالشجاعة. ومن قوله في ذلك

ومهمه جبته على قدمي _________________________
 

تعجز عنه العرامس الذلل _________________________

بصارمي مرتد بمخبرتي _________________________
 

مجتزئ بالظلام مشتمل _________________________

في سعة الخافقين مضطرب _________________________
 

وفي بلاد من أختها بدل _________________________

وكان لإعجابه بنفسه وإعدادها لمهمة عظمى يصد عن مجالس اللهو وكان جادا لا يعرف المجون ولا يتنزل إلى ما يتنزل إليه غيره من الشعراء الذين أثر عنهم ذلك. كما أنه لم ينصرف إلى الحب والغزل. وكان يكثر من الفلسفة والحكم في غزلياته والعهد في الحب أنه قليل الصلة بالحكمة والفلسفة!.
كل ذلك لأنه كان يطلب مطلبًا في الحياة عظيما حتى قال:

يقولون لي ما أنت في كل بلدة؟ _________________________
 

وما تبتغي؟ ما أبتغى جل أن يسمى _________________________

فالذي جل أن يسمى من مطلبه إما النبوة أو الخلافة. أو على الأقل الإمارة!
ولم لا! وقد كان يرى الموالي العبيد تحكم وتقوم على ولاية أعمال الخلافة. وهل العبيد أجدر منه وأكثر كفاءة وأسمى همة وأشد استحقاقا وهو الذي لا يرى في الوجود من يدانيه أو يماثله؟ إذًا فقد طمع المتنبي من سيف الدولة في أكثر من المال فلم يوفق فتركه إلى دمشق وكان بها رجل يهودي من أهل تدمر يعرف بابن ملك يقوم بأمور كافور الإخشيدي فيها فسأل المتنبي أن يمدحه فثقل عليه ولم يفعل. فغضب اليهودي وجعل كافور يكتب في طلب المتنبي فكتب إليه بذلك فقال المتنبي: "لا. لا أقصد العبد وإن دخلت مصر فما قصدي إلا ابن سيده" ثم ذهب بعد حين إلى الرملة فأرسل إليه كافور رسولا يستقدمه. ولا ريب عندي أن هذا الرسول قد ألقى في روع المتنبي أنه إذا سافر إلى مصر فإن الطريق إلى ولايتها أو الإمارة على ولاية منها قريب غير بعيد بدليل أن المتنبي بعد امتناعه الطويل أسرع بعد لقاء الرسول إلى لقاء كافور يحمل إليه الخرد من القصائد التي لا نظير لها في المدح ويقول له كاذبًا إنه كان مشتاقا إلى رؤيته وكان يرجو هذا اللقاء:

أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا _________________________
 

إليه. وذا اليوم الذي كنت راجيًا _________________________

مع أن حقيقته قد كشفته وخديعته قد وضحت من مطلع قصيدته التي لاقى بها كافورًا إذ قال:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا _________________________
 

وحسب المنايا أن يكن أمانيا _________________________

فلقد كان الألم يمضه لاضطراره إلى الرحيل إلى كافور. ويحسب بينه وبين نفسه أنها سخرية من القدر أن يركب ذلك المركب الصعب فينزل من عليائه إلى أسفل موضع فيمدح عبدًا خصيًا! لا يداني في رأيه الثرى الذي تطأه قدمه بل إنه يجد في ذلك الموت.
مما راق  لي