كان شاب مثل القمر اسمه الشاطر حسن، وسيم الطلعة، كثير الحركة، يعيش على الشطارة والحيلة وخفة الدم، يحبه الناس جميعاً لحسن أخلاقه، وكانت أمه امرأة عجوز صاحبة دين لا تترك وقتاً من الصلاة، تحب ابنها وتدعو له دوماً بالرضى، وكانت تطلب من ابنها أن يتزوج بنت حلال، وصاحبة أصل تساعدهما في عمل البيت، وتنجب لهما الأولاد من الصبيان والبنات وتفرح به على حياتها، فكان يضحك ويقول: لا أتزوج حتى أجد بنت أحلى من القمر، وطبخها أطيب من طبخك. فتدعو له أن ينال مراده.
في يوم من الأيام وهو يتجول بين الحقول والبساتين، لمح صبية مثل البدر التمام، تضع نقاباً على وجهها وتحمل صينية على رأسها، فاعترضها وسلّم عليها وسألها: ما تحمل على رأسها ؟. فأجابته: أنها تحمل الغداء إلى والدها في الحقل، فطلب منها أن يذوق طعامها، فوضعت الصينية أمامه، فأكل لقيمات فوجده شهي الطعم لم يذق مثله في حياته، فسألها عن بيتها، فدلّته عليه ومضت في حال سبيلها.
عاد حسن إلى أمه ملهوفاً، وقال لها: البشارة عندك، لقد وجدت أحلى عروس في البلد، وطعامها أطيب طعام ذقته في حياتي، وطلب منها أن تذهب بسرعة و تخطبها له.
حاولت أمه أن تؤخّره أياماً حتى تسأل عن أصلها وفصلها قبل أن تخطبها، لكنه أصرّ على رأيه.
ذهبت الأم وخطبت الفتاة, وبعد أيام أقام العرس وتزوجها فسرّ بها، وقضى معها أجمل الأوقات وطبخت له أشهى المأكولات، وبعد فترة من الزمن بدأت الفتاة تسيء معاملة أمه، وتشكو عليها كلّ يوم، وهو يحاول أن يرضيها ويطيّب خاطرها دون جدوى.
في يوم عاد من الصيد ومعه إوزّة كبيرة، وطلب من أمه وزوجته أن يطبخوها بالرز والصنوبر، وخرج إلى عمله. أمرت العجوز كنتها أن تنقّي الرز ولا تضيع منه حبة واحدة، فأخذته وصارت تنقيه فسقطت منها حبة وجاء الديك وأكلها، فأمسكت به وذبحته وأخرجت الحبة منه، فغضبت العجوز منها وبهدلتها وضربتها، فانزعجت الكنّة ودخلت غرفتها وأغلقت عليها الباب.
عاد حسن إلى البيت فوضعت له أمه الطعام، أكل منه فلم يعجبه، سأل أمه: من طبخ الإوزة ؟. فحكت له القصة، فدخل على زوجته فوجدها زعلانة وحزينة. حاول إرضاءها فلم ترض، وقالت له لقد طفح الكيل ولم أعد أتحمّل أكثر من ذلك، إما أنا وإما أمك في البيت.
فكّر حسن قليلاً فلم يجد حلاً سوى أن يأخذ أمه إلى المغارة في سفح الجبل يضعها هناك، ويجلب لها الطعام كل يوم، وبما أنها أصبحت عجوزاً يمكن أن تقضي بقية حياتها هناك وتريح وترتاح.
في الصباح حمل أمه على الحمار مع بعض الزاد والماء، وأوصلها إلى المغارة وعاد، وعاشت العجوز في المغارة حزينة وحيدة تصلي وتصوم، وتدعو الله أن يهدي ابنها ويحفظه ويسعده، وكان حسن يحضر لأمه الطعام والماء كل أسبوع، ويتفقّد أحوالها وحاجاتها ويعود.
في أحد الأيام أتى إلى المغارة شابان جميلان يشعّ النور من عينيهما، فسلّما على العجوز فردّت عليهما أحلى السلام، ودعتهما ليرتاحا ويتناولا الطعام معها، ويسلّيانها فشكراها على كرمها وأخلاقها، وسألها الأول: ما رأيك في الصيف ؟. فأجابت: الصيف جميل، ليله مقمر، ونهاره دافئ، وخيره كثير من الفواكه والثمار والخضار الله يبارك فيه.
سألها الثاني: ما رأيك في الشتاء ؟. فقالت: الشتاء كله خير، تنزل فيه الأمطار ويزرع فيه الناس ويسهرون حول النار، ولولا الشتاء ما جاء الصيف، ولولا الصيف ما جاء الشتاء.
أعجبهما جواب العجوز، فدعا لها الأول أن يخرج من فمها جوهرة كلما نطقت بكلمة، وأشار الثاني إلى الأرض فتفجّر نبعاً ماؤه كالزلال، ونمت حوله الأشجار وحملت من كل أنواع الثمار، ثم ودّعاها وغابا عن الأنظار. فرحت العجوز وأخذت تشرب من الماء وتتوضأ لكل صلاة، وتأكل من الفواكه اللذيذة، وتحمد الله على هذه النعمة العظيمة.
عندما جاء ابنها يتفقدها شاهد الأرض غير الأرض، والخير كثير والماء وفير، وأمه تعيش في جنة، فتعجّب وسألها عن القصة فحكت له حكاية الشابين، وكلما كانت تنطق بكلمة يخرج من فمها جوهرة، فزاد عجبه وفرحه، واعتذر من أمه، وطلب منها السماح فرضيت عليه، وحملها على الحمار وعادا إلى البيت، فاستقبلها الناس والجيران وفرحوا بالجواهر التي تخرج من فمها، ووصاروا يجمعونها ويأخذونها إلى بيوتهم.
لما رأت زوجته ذلك ذهب غضبها وانزعاجها ورحبت بحماتها وصارت تجمع الجواهر منها، ثم اختلت بزوجها وطلبت منه أن يأخذ أمها إلى المغارة التي وضع أمه فيها، فوعدها بذلك.
في الصباح حمل أم زوجته ووضعها في المغارة وعاد، وبعد أيام حضر الشابان إلى العجوز الثانية فسلما عليها، فلم ترد عليهم السلام وقالت لهما بلهجة منزعجة: ماذا تريدان، ولماذا أتيتما ؟ فسألاها عن بعض الطعام والشراب، فقالت بغضب: ليس عندي لا طعام ولا شراب، فسألها الأول: ما رأيك في الصيف؟. فقالت: كله حرّ وشوب وتعب وغبار الله لا يعيده، وسألها الثاني: ما رأيك في الشتاء؟. فأجابت: أرذل من الصيف ليس فيه سوى البرد، والثلج والوحل الله لا يفرجينا إياه.
غضب الشابان من كلامها وأشار الأول إلى الأرض، فجفّ النبع ويبست الأشجار، واختفت الخضرة وأصبحت الأرض قاحلة جرداء، ودعا لها الثاني أنها كلما قالت كلمة تخرج من فمها حصاة، فشتمتهم وسبّتهم، فتركوها ومضوا في حال سبيلهم.
بعد أسبوع أتى حسن ليعيد أم زوجته، بينما جمعت زوجته الناس لاستقبالها بالزينة والطبول والأفراح، ولما وصل حسن إلى حماته العجوز، وجد الأرض قاحلة ليس فيها عرق أخضر ولا نقطة ماء، ورأى حماته تكاد تموت من العطش، والجوع فسألها عن حكايتها؟ فأخذت تسبّه وتلعن الساعة التي تعرّفت بها عليه، وكلما نطقت بكلمة خرجت من فمها حصاة تصيب وجهه، فتعوذ بالله من الشيطان ولعن الطمع وسوء الأخلاق، وحملها على الحمار وعاد إلى البيت.
وفي الضيعة استقبلها الناس يرحبون بعودتها، وينتظرون الجواهر منها، فأخذت تسبّهم وتلعنهم ويخرج من فمها الحصى, يضرب وجوه الناس، فهربوا من أمامها وتركوها وحدها.
لما رأت ابنتها هذا الحال أخذت تبكي وتنتحب على أمها، فوضعها الشاطر حسن وراء أمها على الحمار وطردها من البيت، وعاد إلى أمه وقبل يدها وطلب منها الرضى والغفران، فدعت له بالتوفيق والسعادة والهناء، وخطبت له بنت الجيران، وعاشوا في هناء وسبات ونبات وخلفوا الصبيان والبنات.
**************************************************