كليوباترا. . ملكة مصر الجميلة وأسطورة زمانها وكل زمان. . ساحرة الرجال. . عاشقة الحب والحرب والجاه والسلطان. . والتي ترقد الاَن بجوار حبيبها أنطونيو قائد الجيوش الرومانية في مقبرتهما، تحت مياه الإسكندرية، وسط مدينتها وقصورها الغارقة في قاع البحر. . سوف يزورها الاَن عشاق التاريخ، عائدين إلى الوراء 2050 عاماً من عمر الزمان.
حيث يخرج إلى الوجود هذه الأيام أغرب متحف، هو الأول من نوعه، يقام بأكمله في أعماق البحر، ليحمل أبناء هذا الزمان في رحلة قريبة من عالم الخيال الساحر الأخاذ، إلى أعماق التاريخ وأسراره الغامضة التي طغى عليها البحر، وطواها عالم النسيان سنوات طويلة من عمر الزمن.
هناك في أعماق الميناء الشرقي لمدينة الإسكندرية أطلال حضارة مذهلة، لزمن كانت تتحكم فيه هذه المدينة في مسار العالم القديم. . كانت الاَراء قد اختلفت. . هل يتم انتشال هذه المدن إلى البر ليراها الناس في متحف فوق سطح الأرض ، أم تبقى كما هي في الأعماق ويغوص إليها عشاق التاريخ لزيارتها، حيث هي في موقعها يحيط بها عالم غامض وساحر ومدهش . . وسر غموضه وسحره يكمن في الظروف المحيطة به، والأساطير التي تنسج حوله. . واستقر رأي منظمة اليونيسكو على بقاء المدينة في مكانها، وإنشاء متحف هو الأول من نوعه، يحمل الزائرين إلى أعماق البحر، حيث ترقد هذه الشواهد في سكون وصمت ووحشة.
أصل الحكاية
يحكي التاريخ أن هذه المدينة كانت قد تعرضت لعدد من الزلازل المدمرة في القرن الرابع عشر، ما أدى إلى غرق الساحل القديم للمدينة، وما عليه من مبان وقصور لملكة مصر الشهيرة كليوباترا وقصر يوليوس قيصر القائد الروماني، ومارك أنطونيو الذين ملأت سيرتهم كتب التاريخ، إلى جانب مجموعة هائلة من الاَثار الغارقة من العهود الفرعونية والبطلمية والرومانية، إضافة إلى بقايا فنار الإسكندرية المعروف بأحد عجائب الدنيا السبع.
وكانت المنطقة قد شهدت على طول 15 عاماً، محاولات جاهدة تمكنت من رسم خريطة للمدينة الغارقة التي تضم 2500 قطعة أثرية، إلى جانب 36 تمثالاً متحفياً لأبي الهول.
رحلة عبر الزمن
لقد كانت مهمة إنشاء هذا المتحف شاقة إلى أقصى الحدود، حيث كان الشرط الأساسي فيها تحقيق الأمان الكامل للزائرين خلال الرحلة الغامضة إلى أعماق البحر، ولذلك أعلنت اليونيسكو عن مسابقة عالمية لتصميم هذا المتحف الأول من نوعه. . واشترك أربعة من أعظم مصممي ومهندسي هذا العصر، وقد فاز تصميم المهندس العالمي الفرنسي (جاك روجيريه) بتكلفة تصل إلى مئة مليون دولار، وزمن إنشاء يستغرق عامين فقط! ولكن كيف تبدو تفاصيل هذا المتحف المعجزة الذي ينقل العالم إلى التاريخ المطمور في أعماق البحر الساحقة؟ يهدف التصميم المعماري والتوزيع الداخلي للمتحف، كما يشرح مصمم المشروع الفرنسي (جاك روجيريه) إلى أن تكون زيارة المتحف عبارة عن رحلة استكشافية عبر الزمن، يعيشها كل زائر منبهراً من خلالها بروعة وأسرار المدينة القديمة الغارقة. . وفي أثناء الزيارة يمكنه متابعة أعمال الأثريين من تنقيب، وترميم للقطع الأثرية تحت الماء.
يتكون مبنى المتحف المقترح من جزأين رئيسين: المبنى الرئيس والذي يمتد كنافذة مفتوحة على الميناء، والذي يوصل إلى المبنى الثاني المغمور كلياً تحت الماء، بعمق عشرة أمتار، وجزء يرتفع فوق سطح الماء ب 25 متراً. . وللانتقال من المبنى الأول إلى المبنى الثاني المغمور تحت الماء، يسير الزائر في ممرات تحت الماء بطول 60 متراً، حتى يصل إلى صالات العرض المغمورة، ومنها القاعة الرئيسة المستديرة، وهي أكثر صالات المتحف تشويقاً، تتيح من خلال حوائطها الزجاجية رؤية القطع الأثرية الغارقة، وفي كل هذا تلعب الإضاءة دوراً مهماً في الفكرة التصميمية للمتحف، فهي من ناحية تلقي الضوء على القطع المغمورة، وأيضاً ترمز إلى الازدهار الحضاري لمدينة الإسكندرية.
ليالي العاشقين
سوف تحكي القطع الغارقة والقصور المغمورة قصص قياصرة الرومان الذين ذابوا عشقاً في ملكة مصر الجميلة، سليلة البطالمة الذين حكموا مصر بعد عصر الإسكندر الأكبر. . ملكة طاغية الجمال. . ضئيلة الجسم. . تمتلك أنفاً يونانياً، وبشرة بيضاء لفحتها شمس الشرق وعينين واسعتين وصوتاً ساحراً ذا جاذبية عنيفة.
سوف يشهد الزائر أطلال قصص حب دامية، وليالي عشق ساخنة شدا بها الشعراء، ورددها المؤرخون على طول الزمان، ويتسلل صوت عبدالوهاب، وكأنه يحكي بين الأطلال ملامح ليالي العاشقين في نشوة حبهم:
ليلنا خمر وأشواق تغني حولنا
وشراع سابح في
النور يرعى ظلنا
كانوا في الليل سكارى وأفاقوا
قبلنا
ليتهم قد عرفوا
الحب فباتوا مثلنا
كلما غرد كأس شارب للخمر
لحناً
يا حبيبي كل ما في
الكون روح يتغنى
وكان الرئيس الفرنسي السابق شيراك، قد أعلن في حضور افتتاح معرض الاَثار الغارقة في باريس ، عن إعجابه وانبهاره بالتصميم المختار، ورغبة بلاده في مساندة مصر على تشييد هذا الصرح الثقافي المدهش .
والمدهش أن علماء الاَثار الغواصين، عثروا على عناصر المدينة التي تشبه في تكوينها إلى حد كبير حالها منذ قرون عديدة، حيث امتلأ القاع بالشواهد الأثرية من تماثيل ولوحات حجرية صغيرة وضخمة، ومجموعات غير عادية من العملات الذهبية والمجوهرات، ومع وجود هذه الشواهد وباستخدام تكنولوجيا الاستكشاف الحديثة، أمكن توضيح حدود وتقسيمات المدينة الغارقة بدقة.>
قيصر وأنطونيو
أكثر ما سوف يثير الزائرين، هو دراما الحب وحكايات العشق الدامي بين ملكة مصر الجميلة التي سقط في هواها القائد الروماني يوليوس قيصر، والذي تزوج بها وأنجبا ابناً سمياه (قيصرون)، كانت كليوباترا تعده ليصبح إمبراطوراً على مملكة تضم روما ومصر. . ولكن القائد الروماني يسقط صريع مؤامرة دبرها أعضاء مجلس الشيوخ، عندما استدعوه إلى المجلس . . وفاجؤوه بغمد خناجرهم في جسده، ويتحول عشق كليوباترا إلى قائد روماني اَخر، هو أنطونيو الذي قاد جيوش روما ومصر لتحقيق أهداف الملكة المصرية، وأنجب منها بدوره توأماً.
وتحكي الأطلال رحلات العاشقين الهائمين حباً في ملكة مصر في جوالتهم فوق نهر النيل على امتداد أرض مصر، وتنساب كلمات الشاعر علي محمود طه في رائعة عبدالوهاب:
يا ضفاف النيل ويا خضرا الروابي
هل رأيتن على النهر فتى غض الإهاب
أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب
سابحاً في زورق من صنع أحلام الشباب
إن يكن مر وحياً من بعيد أو قريب
فصفيه وأعيدي وصفه فهو حبيبي
النهاية الحزينة
وتحكي الأطلال كيف لاح للملكة الجميلة أمل تحقيق أحلامها، في تنصيب ابنها (قيصرون) من يوليوس قيصر ملكاً لإمبراطورية رومانية مصرية. . ولكن الأفراح لا تدوم أبداً، فقد هزمت قوات أوكتافيوس القائد الروماني قوات أنطونيو الذي انتحر في الإسكندرية، ودفن بكل مظاهر الفخامة في قبر لا يبعد كثيراً عن قبر كليوباترا تحت مياه الإسكندرية، وأصبحت ملامح الهزيمة تحيط بالملكة الجميلة من كل جانب، ولم ترض لنفسها أن تكون أسيرة لقائد روماني يضعها في موكب النصر أسيرة مصرية، يطاف بها في طرقات روما. . واستقر في نفسها العزم على الانتحار، حيث قامت بزيارة قبر أنطونيو تودعه، ثم عادت إلى غرفتها واغتسلت وتعطرت، وكتبت كتاباً إلى القائد الروماني المنتصر أوكتافيوس تطلب منه دفنها مع أنطونيو، وسارع القائد الروماني بإرسال ضباطه إلى كليوباترا لمنعها من الانتحار، ولكن عندما فتحوا الأبواب وجدوا كليوباترا ميتة فوق سريرها الذهبي، في زيها اليوناني، ومزينة بالجواهر الملكية، وعلى رأسها شعار البطالمة، وذكر أحد الجنود أنه شاهد ثعباناً متجهاً من حجرتها إلى البحر. . وأمر أوكتافيوس بدفنها بجوار أنطونيو وتستمر خيوط المأساة فيقتل القائد الروماني ابن كليوباترا من يوليوس قيصر (قيصرون)، حتى تنتهي تماماً كل طموحات وأحلام كليوباترا، ثم يرسل بابنيها التوأم من أنطونيو، إلى روما لقضاء بقية حياتهما بعيداً عن مصر، وعندما تنتهي رحلة الأعماق في أغرب لقاء للزائرين العاشقين للتاريخ تحت بحر الإسكندرية، تكون كلمات عبدالوهاب وموسيقاه الناعمة في وداعهم:
يا حبيبي هذه ليلة حبي
**************************************************