وعلى أساس تزوير غير متقن استطاع الفاتيكان عبر القرون أن يدعم سلطته، وهى ليست الفضيحة الوحيدة فى تاريخ الفاتيكان ، ففى عام 1033 صعد طفل على العرش البابوى وهو البابا " بينيديكت " التاسع، وبرشوة من أبيه نصب حبراً أعظم للكنيسة وبدلا من أن يمارس مهامه كحاكم للمسيحيين برسم أساقفة ومعاقبة المهرطقين بالحرمان الكنسي أسقط الكرسي المقدس فى أزمة عميقة.
البابا الصبى عديم الحياء كان شهوانى مغامراته العاطفية تشبه مغامرات الحكام الدنيويين فى عصره ، مغامراته مع نساء روما تبرهن أن قداسته بلغ فى سن مبكرة وحياته الفاسقة أثارت الشعب علية مرات عديدة ونسبت إليه جرائم قتل ونهب وقمع واضطر للهروب من روما ثلاث مرات خوفا على حياته ولكنه يعود دائما وفى النهاية يستسلم للضغط عليه ويبيع منصب البابوية لأب عماده لتصل صورة الفاتيكان للحضيض.
السلطه وفيرة وقوية ولكن أخلاق سكان الفاتيكان ضعيفة وأخيراً تنحى البابا التالى وهذا لم يحدث طبعا عن طواعية ولكن تحت تأثير الضغط السياسي لشاب خارج إيطاليا، هذا الرجل هو " هاينرش " الألمانى الذى اختار البابا الجديد " كليمنز " الثانى وليشكر له اختياره توج " كليمنز " " هاينرش " فى نفس اليوم كقيصر.
وهنا بدأت فضيحة أخرى، فالبابا الجديد زعر عندما بادر " هاينرش " باستفزاز الفاتيكان إلى أقصى درجة، لقد بدل التاج الذى توجه به البابا بتاج يستعمله الرومان فى تتويج حكامهم، وبهذه الإشارة أكد " هاينرش " السلطة القديمة. وأنه الوحيد الذى له الحق أن يحكم المسيحيين، وهو ما كان خطأ كبيرا وقع فيه، فبعد عشرة أشهر فقط مات البابا كليمنز، وأصبح " جريجور " السابع خليفته وهو رجل يعتبره رجال الدين من أعظم البابوات فى تاريخ الكنيسة ، ولكن ماذا فعل هذا البابا ؟
" جريجور " يتبع هدفاً واحداً وهو أن يفعل ما بوسعه حتى يجعل سلطة البابا فوق السلطة الدنيوية ، فأعد مدرسة بأكملها للتزوير مديرها " انزلم فان لوقا " وضع الدكتاتوس بابه " dectatus papae " وهى وثيقة تتعدى أبعادها وثيقة هبة قسطنطين المشهورة، انه ميثاق للسلطة ينص على:
1. إن الكنيسة الرومانية؛ الرب وحده هو الذى أسسها.
2. البابا وحده هو الذى يستخدم شعار سلطة القيصر.
3. كل الأمراء يقبلون قدم البابا.
4. أسم البابا يكون فريداً لا مثيل له فى هذا العالم.
5. فى استطاعة البابا أن يعزل القيصر.
6. إن الكنيسة الرومانية لا تقع فى الخطأ أبداً وبشهادة الكتاب المقدس لا تخطيء أبداً.
ومن أجل أن تتخلص الكنيسة من سلطة الحكم الدنيوى ومن أجل أن تتحرر من سيطرة سلطة الحكام الدنيويين فقد كانت هناك وسيلة واحدة وهى أن الكنيسة ومرة أخرى البابا يجب أن تكون له السلطة المطلقة على كل شىء، فقط بالحكم الشمولى المطلق للبابوية، الذى يدعم السلطه الدينية للكنيسة الكاثوليكية بقدر المستطاع وكل الناس بما فيهم الملوك الألمان يركعون له.
والرغبة التي اجتاحت باباوات العصور الوسطى فى ذلك الوقت هى أنهم عندما يهمون لركوب خيولهم فيجب أن يركع الملوك الألمان لهم فيضع الباباوات أقدامهم عليهم ليركبون خيولهم، هذا ما كان يدور فى مخيلتهم وهو ما كان أجمل شىء فى العالم بالنسبة لهم وكل الأشياء الأخرى لا تهم، لا يهم أن يكونوا ملوكا أو قياصرة المهم هو أن تكون بابا.
ويأتى " هاينرش " بضربة مقابلة فيطلب من البابا " جريجور " أن يتنحى عن منصبه ويسانده عدد كبير من الألمان وكبار الأساقفة الإيطاليين فى طلبه، وهو ما كان يتوقعه جريجور فأحاطهم بسلاح الكرسي المقدس الفعال فى هذا الوقت وهو " التكفير "، أصدره فى حق هاينرش وأتباعه، ولم يحدث من قبل أن تجرأ بابا وهاجم حاكما بمثل هذة الطريقة، واهتز النظام العالمى فى العصور الوسطى.
ماذا كان يعنى هذا للحاكم الألماني، يعنى أن هاينرش لا يسمح له أن يدفن فى تربة مقدسة، وزواجه باطل، حتى قتله لا يُعاقب عليه، هاينرش من الناحية الدينية مهدر دمه ، وبدأ أتباعه يعرضون عنه.
وهو لابد أن يعترف أنه ارتكب خطأً سياسيا، إذا كان يود أن يحتفظ بمملكته، فلابد أن ينفذ العقاب، وهو الخضوع الكامل للبابوية، وفى شتاء عام 1077 بدأ السفر هو وزوجته وإبنه المولود حديثا عبر طريق جبال الألب الشاق والهدف كان حصن " كانوسا " لابنة عمه " ماتيلدا فون تُسّي " وفى منطقة التلال الطبيعية بالقرب من مدينة " مُدنا " ينتظر جريجور وصول الملك الشاب، وبعد عدة أيام من المفاوضات بينهما وعن طريق الوسطاء حُددت وسائل العقاب.
فقط مرتديا قميصاً من الصوف يسلم هاينرش نفسه أمام القلعة وكل متعلقاته الملكية قد سلمت للبابا ، وهاينرش يطلب الغفران ولكن جريجور يظل صلبا ، بفضل الباباوية التي وصلت لقمة سلطتها التي كانت بدايتها لصياد قادم من الجليل وأصبحت من أكبر مؤسسات الحكم التي شهدها التاريخ البشرى على الإطلاق إن لم تكن أسوأها.
والبابا جريجور لا يعرف الرحمة، لثلاثة أيام بثلاث ليالى، يترك قيصر الإمبراطورية الرومانية المقدسة يتجمد فى أشد موجة صقيع عرفها القرن وهاينرش يكفر عن جرأته حتى تجمد من البرد وازرق جسده واصطكت أسنانه ببعضها البعض.
لقد كان أكبر موقف مهين فى تاريخ البشرية وفقط فى بداية اليوم الرابع وفقط من أجل توسل صاحبة القلعة ماتيلدا بإلحاح مستمر يلين جريجور ويرفع العقاب وقد حُسم صراع السلطة لصالح البابا
**************************************************