من التاريخ: تيمورلنك
لقد عرف القائد المغولي «تيمور»Timur باسم «تيمورلنك»، أو «تيمور الأعرج»، فالمصادر التاريخية تشير إلى أن هذا القائد العسكري الذي أذهل العالم بقدراته السياسية والعسكرية على حد سواء، كان يعاني من العرج بسبب حادثة وقعت له وهو في سن الشباب، بل إن الأغرب من ذلك هو أنه أصيب بها على يد راعي ضأن أثناء قيامه بسرقة شاه.. فتاريخ تيمورلنك لم يكن ناصع البياض، فاتهامه بأنه قاطع طريق وزعيم مجموعة عسكرية مستقلة يكاد يكون ثابتا، وهو ما دفعه لمحاولة الخروج من هذه المهنة، فلم يجد أمامه سوى الانضمام إلى جيش عديله الأمير حسين الذي كان يتمتع بنوع من الاستقلال في الإمبراطورية المنغولية، وقد تعرض هذا الجيش للعديد من الهزائم المتلاحقة على أيدي جيوش الدويلات الأخرى، ولكنه استطاع في نهاية الأمر أن ينتصر ويبسط قوته على المنطقة المعروفة بـ«ما وراء النهرين»، وبهذا بدأ نجم تيمورلنك يظهر على الساحة السياسية والخريطة الجغرافية المنغولية خاصة بعدما قوى وضعه العسكري وتعلم القتال والعسكرية والتكتيكات المرتبطة بفنون الحرب وأصبح مستعدا لبسط نفوذه على الخريطة التقليدية المغولية.
وبمرور الوقت، أصبح تيمورلنك قائدا عظيما على رأس جيش لا بأس به، لا تنقصه العدة والعتاد كما لا ينقصه الطموح والعزيمة.. بداية فلقد اتبع هذا القائد سياسة عسكرية قريبة للغاية من تكتيكات جنكيزخان، فلقد تبنى هذه التكتيكات نفسها وعلى رأسها سرعة الحركة والتمويه والقدرة على المناورة بالخيل، كما احتفظ بالتكتيك الخاص بألوية الرماة المتحركة التي كفلت له الغلبة على الساحة القتالية، كذلك فقد اقتبس منه العنف الشديد في التعامل مع الأعداء، فيقال إنه كان يقتل الأسرى ويقطع الرؤوس ويحرقها أمام ذويهم عبرة لهم حتى لا يقفوا ضد جيوشه أو يثوروا على حكمه.
من ناحية أخرى، ركز «تيمورلنك» على بناء عاصمة جديدة لدولته الصاعدة في مدينة سمرقند، وقام بتشييد المدن وتطوير المدن القائمة، ويقال إنه كان يقتل معارضيه إلا من ذوى الحرف اليدوية أو المعمارية أو العلمية، فكان يأخذهم معه إلى عاصمته أو المدن التي يريد تطويرها، وهو ما كفل له مدنا عظيمة تتمتع بمساجد كثيرة، وهذا ليس بمستغرب عليه؛ فتيمورلنك كان مسلما، ولكنه بكل تأكيد لم يحترم التقاليد الإسلامية في القتال، بل إنه اقتبس التقاليد المنغولية في قتل وتدمير كل معارضة له.
بدأ تيمورلنك بتوسيع رقعة دولته على حساب دول الجوار، فكان الصدام الأساسي مع دولة المغول الشمالية المعروفة بالـ«غولدن هورد» كما دخل في سلسلة من المعارك مع القائد المغولي «تختميش» التي انتهت بمعركة «ساراي» عام 1395م، التي هزم فيها الأخير شر هزيمة، وكانت هذه الحروب مهمة للغاية، لأن هدف تيمورلنك كان جذب خطوط التجارة من الشمال إلى دولته في الجنوب، وهو ما تم له بالفعل، فكان هذا عاملا اقتصاديا مهما لإثراء دولته وتقويتها بما يوفر له قوة إضافية على الساحة الدولية.
بمجرد أن دان له الشمال، بدأ الرجل يطمح في مشروع إعادة الإمبراطورية المنغولية مرة أخرى إلى سابق عهدها إبان حكم جنكيزخان الذي كان له أثره الكبير والمهم على شخصية تيمورلنك، فلقد كان يسعى لجذب الشرعية نحوه من خلال التقرب لعائلة جنكيزخان، وهو ما دفعه للزواج باثنتين من حفيداته حتى يمكن ربط اسمه باسم هذا القائد العظيم.
لقد بدأت موجات توسع تيمورلنك الواحدة تلو الأخرى، فتوجه إلى الهند واستولى على منطقة الشمال وسيطر عليها ودمر مدينة دلهي تماما وقمع كل محاولات الثورة ضده. ولم يكن الرجل متسامحا مع الديانات المختلفة في هذه الدول، فلقد كان متحيزا للإسلام تحيزا تاما، ثم نقل بعد ذلك جيوشه صوب الغرب وبدأ صراعا مريرا مع دولة المماليك استطاع أن يحسمه لصالحه بعدما استولى على سوريا، فخضعت له دمشق وحلب وكل المدن السورية، ولكن القدر أنقذ مصر من المصير نفسه لأن تيمورلنك بدأ يوجه انتباهه صوب الشمال في صدام مع الدولة العثمانية الفتية التي كانت تستعد تماما لغزو القسطنطينية فأرسلت جيوشها حول المدينة وطوقتها بشكل سريع، ولكن ظهور التتار في 1402 على حدود هضبة الأناضول أعطى للقسطنطينية عمرا إضافيا بلغ 51 عاما، حيث ركز السلطان «بيازيد» على الخطر المغولي فجمع جيشا كبيرا واتجه به غربا لملاقاة تيمورلنك في معركة أنقرة الشهيرة.
حقيقة الأمر أن بيازيد لم يكن ندا لتيمورلنك على الرغم من جسارته، فتيمورلنك كان أكثر قدرة على القيادة، فقام بتطويق القوات العثمانية بالالتفاف حول جيش بيازيد، الذي اضطر للانسحاب صوب مدينة أنقرة، ولكنه سرعان ما لقي الهزيمة المنكرة الكاسحة وتم أسر السلطان العثماني خاصة بعدما انضم له لواء عثماني كامل، ولكن تيمورلنك لم يستثمر وجوده في الأناضول، بل إنه عاد مرة أخرى إلى سمرقند وبدأ يجهز لحملة عسكرية للسيطرة على الصين تحقيقا لهذا الحلم الذي داعب جنكيزخان ولم يعطه القدر الفرصة لتحقيقه، وبالفعل بدأ يجهز جيوشه لهذا الحدث، ولكنه مات في عام 1405 في مدينة «أوترار» بكازاخستان، ولكنه دفن في مدينة سمرقند حيث كان قد بنى لنفسه مقبرة عظيمة، وقد دفن فيها أيضا حفيده محمد سلطان، ولم يفتح أحد مقبرته حتى قبيل الغزو النازي للمدينة عام 1941 حيث فتح العالم الروسي جيراسيموف المقبرة، ووضع على أساس عظامه تصورا لشكله، وهو التصور المتداول حتى يومنا هذا.
حقيقة الأمر أن تيمورلنك استطاع أن يصطدم بأربع دول كبرى؛ هي: الدولة العثمانية في الأناضول، والمملوكية في مصر والشام، والمملكة المغولية بالشمال، ودولة الهند في الجنوب، واستطاع أن يهزم هذه القوى جميعا بفضل عبقريته العسكرية.. ومع ذلك، فإن دولته لم تصمد كثيرا من بعده، شأنها شأن الدولة المغولية السابقة، لأسباب تتعلق في الأساس بالصراعات بين أبنائه وأحفاده.. وكان من أشهر جمله تندره على نفسه بقوله: «إنني أبتسم كلما تذكرت أن الله منح سيادة العالم لرجل أعرج مثلي؟».
**************************************************