الأمير أسامة بن منقذ يحكي عن أبي العلاء المعري
حكى أسامة بن منقذ (الفارس الشاعر صاحب التصانيف العديدة، وأحد قادة صلاح الدين الأيوبي) عن أبي علاء المعري، فقال: كان بأنطاكية خزانة كتب أعرف خازنها، فجلست يوماً عنده، فقال لي: لقد خبأت لك خبيئة غريبة ظريفة، لم يسمع مثلها في تاريخ، ولا في كتاب منسوخ، قلت وما هي؟ قال: صبي دون البلوغ، ضرير يتردد إلي، وقد حفظته في أيام قلائل عدة كتب، وذاك أني أقرأ عليه الكراسة مرة واحدة فلا يستعيد إلا ما يشك به، ثم يتلو علي ما سمعه، كأنه كان محفوظاً له. قلت لعله قد يكون، فقال سبحان الله، كل كتاب في الدنيا يكون محفوظاً له، ولئن كان كذلك فهذا أعظم.
حضر المشار إليه، وهو صبي دميم الخلقة، مجدّر الوجه، على عينيه بياض من أثر الجدري كأنه ينظر بإحدى عينيه قليلاً، وهو يتوقد ذكاء، يقوده رجل طويل من الرجال، أحسبه يقرب من نسبه. قال له الخازن: يا ولدي! هذا السيد رجل كبير القدر، وقد وصفتك عنده، وهو يحب أن تحفظ اليوم ما يختاره لك، فقال: سمعاً وطاعة، فيختار ما يريد. قال ابن منقذ: فاخترت شيئاً، وقرأته على الصبي، وهو يموج ويستزيد، فإذا مر من شيء يحتاج إلى تقريره في خاطره قال: أعد هذا، فأرده عليه مرة أخرى حتى انتهيت إلى ما يزيد عن كراسة، ثم قلت له: يقنع هذا من قبل نفسين قال: أجلن حرسك الله! قلت كذا، وتلا علي ما أمليته عليه، وأنا أعارضه بالكتاب حرفاً حرفاً حتى انتهى إلى حيث وقفت عليه، فكاد عقلي يذهب لما رأيته منه، وعلمت أنه ليس في العالم من يقدر على ذلك إلا أن يشاء الله، وسألت عنه، فقيل لي: هذا أبو العلاء المعري التنوخي من بيت العلم والقضاء والثروة والغناء.
إن في التأكيد على "دمامة" المعرّي في هذه القصة وغيرها ما يثير بالفعل عن قدرة المعرفة وحدها أن ترفع صاحبها فوق كل المعايير الأخرى: من الشكل والهيئة، إلى الغنى والمكانة الاجتماعية، إلى السلطة والشهرة، فقد برز المعري فيها كلها بشخصه وإبداعه وحدهما!
ويروى عن أبي العلاء ما هو أغرب من ذلك، وهو أنه حفظ مرة حديثاً طويلاً بالفارسية دون أن يفهم معناه، وأبلغه إلى صاحبه كلمة كلمة، ومثل ذلك بالأذربيجانية. علاوة على حفظه لأشعار العرب، وعلم اللغة والأنساب، وغيرها من الفقه والفلسفة والتاريخ. ولكن لم يرو عن أحد يحفظ النثر هكذا سوى عن شاعره المفضل: المتنبي!
هي حكايات عن رجال عظام من تاريخنا، تتخطى في دلالاتها مسألة الحفظ، وتدخل في حيز الإبداع الجديد الطازج، ولذلك يقول علم النفس: إن الذاكرة في أعلى درجاتها إبداع.
**************************************************