وردفي الأغاني ما ملخّصه أن ابنة عم الفرزدق * النوار * قد خطبت من قبل أحدالرجال أرادته * فطلبت من الفرزدق أن يكون وليّها * فطلب منها أن تُشهدالناس أنّه وليُّها * فوافقت * وجمع الناس فأشهدته أنّه وليّها * فقال : "اشهدوا أنني زوجت النوار من نفسي * " فغضبت النوار * وهربت منه إلى الزبير* وكان واليا على الحجاز والعراق * واستجارت به فاحتال الفرزدق إلى أنأعادها * وتزوّجها * ويبدو أنّه لم يقض معها حياة سعيدة * وقد تزوّج عليهاامرأتين * وتزايد نشوزها منه فطلقها * وكانت امرأة ذات دين * وخلق * ساهمافي ابتعادها عنه * ويبدو من القصة في كتاب الأغاني أن تعالي النوار علىالفرزدق كان دائما * وأنها مثلت له التحدي المستمر سواء أكان ذلك وهي عنده* أم كان عندما هربت منه * أم كان عندما طلّقها وندم ندما شديدا .
والقصيدة التي بين أيدينا وردت في ديوان الفرزدق * ولم ترد في سرد الأغانيللقصّة مما يبقي كثيرا من الغموض على بعض الأبيات في هذه القصيدة * على أنالأهم في هذا أن في القصيدة لوحة خاصّة بالنوار * تتألّف من ستّة أبياتسنراها فيما بعد * وقد اخترنا هذه القصيدة لغرابة مطلعها على غير ما عرفهالعرب من الوقوف على الأطلال * أو ذكر النسيب ( الحبيبة ) .
غرابة القصيدة
كثيرا ما كان الشاعر يبدأ قصيدته بمقدّمة طلليّة أو غزلية * وقد رأينا فيمقالين سابقين أن اسم الحبيبة – على الأقل – له علاقة وثيقة بمضمونالقصيدة * وأن كثيرا من النساء اللواتي كن في تلك القصائد كنّ رمزا وليسمتحققا واقعيا * ومهما يكن الأمر * فإن ابتداء الشاعر قصيدته بذكر المرأةأو أطلالها أمر غير غريب * مهما تباينت الآراء في حقيقته أو رمزيّته .
أما غريب هذه المقالة * فإنه ابتداء الشاعر قصيدته بالحديث عن ذئب * وعنمغامرة رفقة ذئب * إذ إنه دعا الذئب ليقاسمه عشاءه * غير أن الذئب لميستطع التخلّص من طبع الغدر فيه * وبعد ذكر مغامرته مع الذئب ينتقل للحديثعن المرأة * والأسئلة التي نطرحها ونحاول الإجابة عليها هي :
1- هل قصّة الذئب قصّة حقيقيّة ؟
2- ما المهم في هذه القصّة ؟ أهو قدرته على قتل الذئب ؟ أم إبراز طبع الغدر في الذئب ؟
3- كيف استطاع الشاعر أن ينتقل من الحديث عن الذئب إلى الحديث عن النوار ؟وبأي وسيلة تخلّص ؟ وبماذا نستطيع أن نستبدل الذئب إذا كان توظيفه رمزيّا ؟
القصيدة
القصيدة من البحر الطويل وعدد أبياتها سبعة وأربعون بيتا * وجاءت في لوحاتثلاث هي: لوحة الذئب* ولوحة النوار زوج الفرزدق* ولوحة الفخر بالقبيلة –تميم - * وقد ابتدأ القصيدة بلوحة الذئب إذ إنه دعا الذئب إلى مشاركته فيطعامه * واقتسم الزاد بينه وبين الذئب * لكنّ الذئب أبى إلا أن يكون وفيّالطبعه الغادر * يقول الفرزدق :
وأطلس عسال وما كان صاحبا
دعوت بناري موهنا فأتاني
فما دنا قلت ادن دونك إنّني
وإياك في زادي لمشتركان
فبت أقد الزاد بيني وبينه
على ضوء ناء مرّة ودخان
فقلت له لمّا تكشّر ضاحكا
وقائم سيفي من يدي بمكان
تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما
أخيين كانا أرضعا بلبان
ولو غيرنا نبّهت تلتمس القرى
أتاك بسهم أو شباة سنان
وكل رفيقي كلّ رحل وأن هما
تعاطى القنا قوماهما أخوان
وكما تروي القصيدة فإن الذئب أكل من الزاد * لكنّه كشّر عن أنياب الغدر *فينبّهه الشاعر لذلك * ويخاطبه طالبا العهد * مقابل صحبته * ويعرّف الذئببما يعرف عنه من طبع الغدر * فهو والغدر أخوان في الرّضاع ( أخيين كاناأرضعا بلبان ) .
ثمّ ينبّهه إلى سوء عمله * فلو أنه طلب الطعام من غير الفرزدق لكان جزاؤهرمحا أو سهما * لكنّ الفرزدق كان كريما معه * ثم ينبّهه إلى أن رفيقيالرحلة يجب أن يكونا أخوين *وإن كان قوماهما متخاصمين * وبهذا تنتهي لوحةالذب * ونلاحظ أن ( القصة ) مفتوحة * إذ إن الفرزدق لم يقتل الذئب * ولمتوح القصيدة بقتله * وإنما اكتفى الفرزدق بمحاورته بالترهيب والترغيبوالنصح لينتقل إلى لوحة المرأة ( النوار ) وهذا ينفي مغزى سرد البطولة عنإيراد قصّة الذئب * ويفتح التأويل الرمزي لذلك * فلا القصّة منطقيّة منحيث التحقق الواقعي * ولا هي مما تستمال به القلوب من غزل رقيق كما كانالقدماء يبرّرون المقدمة الغزلية * وبناء المطلع على غدر الذئب يعني أنالقصيدة كلها مبنية على هذا الغدر مضمونا * قاصدة إبراز هذه الصفة دونغيرها من صفات * ودون ما يتعدّاها من مغاز .
وإذا كانت لوحة الذئب مفتوحة فإنه مهّد إلى لوحة النوار بثلاثة أبيات * يقول:
فهل يرجعنّ الله نفسا تشعّبت على أثر الغادين كلّ مكان
فأصبحت لا أدري أأتبع ظاعنا أم الشوق مني للمقيم دعاني
وما منهما إلا تولّى بشقّه من القلب فالعينان تبتدران
وهذه الأبيات تظهر التمزّق النفسي والحزن والحيرة التي يعانيها الشاعر منخلال تشعّب نفسه * ومن خلال التساؤل المر الذي يعكس ذلك القلق وتلك الحيرة* كأنه في لوحة الذئب قد شفى نفسه من غل خارجي * فصار أمام نفسه ليرىحقيقة تلك النفس الحائرة الشاعرة بالهزيمة إذ تركته النوار * وإذ هو فيمعمعان شوقه وحسرته وشعورة بالنقص * ذلك الشعور المضطرب الذي ينتاب الرجلعندما تفضّل امرأةٌ آخر عليه * من هذه اللوحة الانتقالية الحزينة ينطلقإلى اللوحة الحقيقية التي تخص النوار * يقول :
ولو سُئلت عنّي النوار وقومها
إذا لم توار الناجذ الشفتان
لعمري لقد رقّـقـتـني قبل رقّـتي
وأشعلت فيّ الشيب قبل أواني
وأمضحت عرضي في الحياة وشنته
وأوقدت لي نارا بكل مكان
فلولا عقابيل الفؤاد الذي به
لقد خرجت ثنتان تزدحمان
ولكن نسيبا لا يزال يشلّني
إليك كأني معلقٌ برهان
سواء قرين السوء في سرع البلى
على المرء والعصران يختلفان
ونلاحظ في هذه الأبيات أنه بدأ يتحدث عن النوار بضمير الغائب في البيتالأول من اللوحة * وبأداة الشرط (لو ) التي تفيد الامتناع للامتناع * بمايشي بالتحسّر * وبما في البيت من اعتداد بالنفس * ووثوقية بصحّة الموقف *فهي لو سُئلت عنه لعضّت الشفتين ندما * لكن هذا الاعتداد يخفت في البيتالتالي *وينخفض الخطاب إلى مستوى الرّجاء مع التودّد * فقد رقّقته النواروقد كان لا يرق * وأشعلت الشيب في رأسه قبل موعده * ليذكّرها في البيتالثالث بما صنعت به * فقد شوّهت عرضه *وعابته بتركها إيّاه * وأصبح سيرةفي كل ناد *يسخر منه الناس * وهذه حقيقة إذ أورد صاحب الأغاني كثيرا منالأبيات التي قالها أعداؤه يسخرون من هروب النوار منه قبل أن يدخل إليها *وأبياتا أفحش هو فيها تجاه النوار لا أستطيع ذكرها هنا.
وفي البيت الرابع والخامس يرجع إلى نغمة التهديد باستخدام أداة الشرط (لولا ) التي تفيد الامتناع للوجود * فلولا تقيّد فؤاده وانشداده إليها *ولولا أنها ابنة عمّه * لكان له معها سلوك آخر * لكنّه يحبّها * فهوكالمعلق بالرهان * يستطيع أن يفلت لكنّ نفسه تمنعه .
أما البيت السادس * وهو آخر اللوحة الخاصّة بالنوار *فإنه البيت الذي يربطلوحة الذب بلوحة النوار * فهي والذئب قرينا سوء * وقرينا السوء سواء في كلزمان *وطبعهما الغدر والنكث * وهو في هذا البيت يؤكّد ما تذهب إليه هذهالمقالة * ويجعلنا نستبدل الذئب بالنوار* بشيء من الطمأنينة * ونضع النوارفي مكانها الوقائعي *ومن يقرأ قصّة زواجه من النوار يعرف أيّهما الذئبالذي غدر بصاحبه: الفرزدق الذي استغل ثقتها به فزوّجها من نفسه غدرا * أمالنوار التي هربت وهذا أقصى ما تستطيع إزاء غدر الفرزدق بها؟
ذهبت النوار وذهب الفرزدق * وبقيت القصيدة التي تدين الذئب والنوار دون أنيبقى من يدافع عنهما* وأظنّ أن الذئب أكثر وفاء من الفرزدق * فما بالكبالنوار * لكن مشكلة النوار هي مشكلة كافور الإخشيدي * فهو العادل الرقيقالذي كان لا ينام إلا بعد أن يتفقّد أحوال الرعيّة * ويطمئن عليها * وماأن جاءه المتنبي فلم يعطه ما أراد * حتى طرّز به المتنبّي الشتائم وشوّهصورته وشابها بالمخازي بقيّة الدهر إلا عند من يقرؤون ما وراء السطورالأكم.
**************************************************