فيصل الكناني عضومتقدم
علم الدولة : رقم العضوية : 21 الجنس : تاريخ التسجيل : 20/09/2008 عدد المساهمات : 12754 نقاط : 24490 تاريخ الميلاد : 07/04/1960 العمر : 64 الموقع : العراق العمل/الترفيه : سأل الممكن المستحيل : أين تقيم ؟ فأجابه في أحلام العاجز الجنسية : عراقية المزاج : من يحب الشجرة يحب أغصانها الاوسمة :
| موضوع: أعرابي في الحمام! السبت 30 أكتوبر - 21:59 | |
|
قول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتابه (صور وخواطر) :
صحبنا في رحلتنا إلى الحجاز، دليل شيخ من أعراب نجد يقال له صلَبى ما رأيتأعرابياً مثله قوةَ جَنَان، وفصاحة لسان، وشدة بيان ولولا مكان النبرةالبدوية لحسبته قد انصرف الساعة من سوق عكاظ، لبيان لهجته، وقوة عارضته،وكثرة ما يدور على لسانه من فصيح الكلام. وكان أبيّ النفس، أشمّ المعطس،كريم الطباع، لكن فيه لوثة وجفاء من جفاء الأعراب، رافقنا أيام طويلة، فماشئنا خلة من خلال الخير إلا وجدناها فيه، فكان يواسينا إذا أصبنا، ويؤثرناإذا أَضَقنا، ويدفع عنا إذا هوجمنا، ويفديّنا إذا تألمنا، على شجاعةنادرة، ونكتة حاضرة، وخفة روح، وسرعة جواب، قلنا له مرة:
- إن (صْلَبة) في عرب اليوم، كباهلة في عرب الأمس، قبيلة لئيمة يأنفالكرام من الانتساب إليها، وأنت فيما علمنا سيّد كريم من سادة كرام، وليسلك في هذه القبيلة نسب؟ فما لك تدعى صلبى. فضحك وقال:
- صدقتم والله، ما أنا من صلبة، ولا صلبة مني، وإني لكريم العم والخال ولكنّ هذا الاسم نكتة أنا مخبركم بها.
قلنا: هات. قال:
- كان أبواي لا يعيش لهما ولد، فلما ولدت خشيا عليّ فسمياني صْلَبى. قلنا: ائن سمياك صْلَبى عشت؟ قال:
إن عزرائيل أكرم من أن يقبض روح صْلَبى.
وسألناه مرة: هل أنت متزوج يا صْلَبى؟ قال:
- لقد كنت متزوجاً بشرّ امرأة تزوجها رجل، فما زلت أحسن إليها وتسيء إليّ، حتى ضقت باحتمالها ذرعاً فطلقتها ثلاثاً وثلاثين.
قلنا: إنها تبين منك بثلاث، فعلام الثلاثون؟
فقال على الفور: صدقة مني على الأزواج المساكين!
وطال بنا الطريق إلى تبوك، وملّ القوم، فجعلوا يسألونه عن تبوك، ويكثرون عليه، يتذمرون من بعدها، حتى إذا كثروا قال لهم:
ما لكم تلومونني على بعدها؟ والله لم أكن أنا الذي وضعها هناك. ولم يكنصْلَبي يعرف المدن، ولم يفارق الصحراء قط إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك لاتزيد عن خمسين بيتاً...) فلما بلغنا مشارف الشام أغريناه بالإبلاد ودخولالمدينة، وجعلنا نصف إليه الشام، ونشوّقه فيأبى، وكنت صفّيه من القوموخليله ونجيّه فجعلت أحاولره وأداوره، وبذلت في ذلك الجهد فلم أصنع معهشيئاً لما استقر في نفسه من كراهية المدن وإساءة الظن بأهلها، وكان عربياًحراً، ومسلماً موحداً، لا يطيق أن يعيش يوماً تحت حكم (الروم) أو يرى مرةمظاهر الشرك...
فودعناه وتركناه...
* * *
وعدت إلى دمشق، فانغمست في الحياة، وغصت في حمايتها أكدّ للعيش، وأسعىللكسب، فنسيت صلَبى وصُحبته، وكدت أنسى الصحراء وأيامها، ومرّت على ذلكشهور... وكان أمس فإذا بي ألمح في باب الجابية وسط الزحمة الهائلة، وجهاًأعرفه فلحقت به أتبيّنه فإذا هو وجه صْلَبى، فصحت به:
- صْلَبى! قال: - لا صْلَبى ولا مْلَبى.
قلت: ولم ويحك؟ قال: أنا في طلبك منذ ثلاث ثم لا تأتي إليّ ولا تلقاني؟
فقلت له ضاحكاً: - وأي ثلاث وأي أربع؟ أتحسبها تبوك فيها أربعمائة نسمة؟إنها دمشق يا صْلَبي، فيها أربعمائة ألف إنسان، فأين تلقاني بين أربعمائةألف؟
قال: - صدقت والله.
قلت: هلم معي. فاستخرجته من هذه الزحمة الهائلة، وملت به إلى قهوة خالية،فجلسنا بها ودعوت له بالقهوة المرة والشاهي، فسرّ، وانطلق يحدثني قال:
- لمّا فارقتكم ورجعت وحيداً، أسير بجملي في هذه البادية الواسعة، جعلتنفسي تحدثني أن لو أجبت القوم ورأيت المدينة... فلما كان رمضان مرّ بنابعض الحضريين فدعوني إلى صحبتهم لأرشدهم الطريق، ثم أغروني كما أغريتموني،وحاوروني كما حاورتموني حتى غلبوني على أمري ودخلوا بي دمشق، فما راعنيوالله يا ابن أخي إلا سيارة كبيرة كسيارتكم هذه، لكنها أهول وأضخم، لهانوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فأدخلونيإليها، فخشيت والله وأبيت، فأقسموا لي وطمأنوني، فدخلت ويدي على خنجري إنرأيت من أحد شيئا أكره وجأته به، وعيني على النافذة إن رابني من السيارةأمر قفزت إلى الطريق، وجلست، فما راعنا إلا رجل بثياب عجيبة قد انشق إزارهشقاً منكراً، ثم التف على فخذيه فبدا كأنما هو بسراويل من غير إزار، وعمدإلى ردائه فصف في صدره مرايا صغيره من النحاس، ما رأيت أعجب منها، فعلمتأنه مجنون وخفت أن يؤذينا، فوضعت كفي على قبضة الخنجر، فابتسم صاحبي وقال:هو الجابي. قلت: جابي ماذا، جبّ الله (...)!
قال: اسكت، إنه جابي (الترام) أعني هذه السيارة.
ثم مدّ يده بقرشين اثنين، أعطاه بها فتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسرمنها، وعجبت من بلاهة هذا الرجل إذ يشتري بقرشين ورقتين لا تنفعان وجلستلا أنبس، فلم تكن إلا هنَيّة حتى جاء رجل كالأول له هيئة قِزْدية ألا أنهأجمل ثياباً، وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها، فثارت ثائرتي، قلت:هذا والله الذل، فقّبح الله من يقيم على الذل والخسيفة، وقمت إليه فلبّبتهوقلت له:
- يا اين الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا، ودفعنا به قروشنا فتمزقه، لأمزّقن عمرك.
وحسبت صاحبي سيدركه من الغصب لكرامته، والدفاع عن حقه مثل ما أدركني فإذاهو يضحك، ويضحك الناس ويعجبون من فعلي، لأن عمل هذا الرجل -فيما زعموا-تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم...
ولما نزلنا من هذه الآفة، قال لي صاحبي: هلّم إلى الحمام. فقلت: وما الحمام يا ابن أخي؟
قال: تغتسل وتلقي عنك وعثاء السفر.
قلت: إن كان هذا هو الحمام، فما لي فيه من مأرب، حسبي هذا النهر أغطس فيه فأغتسل وأتنظف.
قال: هيهات... إن الحمام لا يعدله شيء، أو ما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟
قلت: لا والله ما سمعت. قال: إذن فاسمع ورَهْ.
وأخذني فأدخلني داراً قوراء في وسطها بركة عليها نوافير يتدفق منها الماء،فيذهب صعداً كأنه عمود من البلور ثم يتثنى ويتكسر ويهبط كأنه الألماس، لهبريق يخطف الأبصار، صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان، وعلى أطرافالدار دكك كثيرة، مفروشة بالأسرة والمتكآت والزرابيّ كأنها خباء الأمير،فلم نكد نتوسطها حتى وقثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد، يصيحون عليناصياحاً غريباً، فأدركت أنها مكيدة مدبرة، وأنهم يريدون اغتيالي، فانتضيتخنجري وقلت: والله لا يدنو مني أحد إلا قطعت رقبته، فأحجموا وعجبواورعبوا، وغضب صاحبي وظنني أمزح، ومال عليّ يعاتبني عتاباً شديداً. فقلتله: ويحك أو ما تراهم قد أحاطوا بنا؟ قال:
إنهم يرحبون بنا ويسلمون علينا. فسكت ودخلت. وعادوا إلى حركتهم يضحكون منهذا المزاح، ويدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون، وأنا لاأدري ما هم صانعون حتى قادونا إلى دكة من هذه الدكك، وجاءوا ينزعون ثيابنافتحققت أنها المكيدة، وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم قتلي، فقدعجزوا أن يقاتلوني وبيدي الخنجر، فأبيت وهممت بالخروج ولكن صاحبي ألحّعليّ وأقسم لي، فأجبت واستسلمت وإن روحي لتزهق حزناً على إني ذللت هذاالذل حتى أسلمتهم سَلَبي يسلبونني وأنا حي. ولو كنت في البادية لأريتهمكيف يكون القتال... حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبق عليّ شيء، قلت: أما منمسلم؟ أما من عربي؟ أتكشف العورات في هذا البلد فلا يغار أحد، ولا يغضبإنسان؟
فهدّأ صاحبي من ثورتي وقال: أفتغتسل وأنت متزر؟ قلت: فكيف أتكشف بعد هذه الشيبة وتذهب عني في العرب فتكون فضيحتي إلى الأبد؟
قال: من أنبأك أنك ستتكشف؟ هلا انتظرت!
فانتظرت وسكت فإذا غلام من أغلمة الحمام، يأخذ بيده إزاراً فيحجبني به حتىأنزع أزراري وأتزرّ به، فحمدت الله على النجاة، وكان صاحبي قد تعرى فأخذبيدي وأدخلني إلى باطن الحمام، فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلىساحات، ومداخل ومخارج ملتفّة متلوية، يضّل فيها الخرّيت وهي مظلمة كأنهاقبر قد انعقدت فوقها قباب وعقود، فيها قوارير من زجاج تضيء كأنها النجوماللوامع، في السماء الداجية، وفي باطن الحمام أناس عري جالسون إلى قدور منالصخر فيها ماء، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وقلت هذه والله دارالشياطين وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أذكر منها شيئاً، فأيقنت أنهاستركبني الشياطين لما نسيت من آية الكرسي، وجعلت أبكي على شيبتي أن يختملها هذه الخاتمة السيئة، وإني لكذلك، وإذا بالخبيث يعود إليّ يريد أن ينزعهذا الإزار الذي كسانيه، فصحت به: يا رجل، اتق الله، سلبتني ثيابي وسلاحي،وعدت تجردني وتعريني، الرحمة يا مسلمون، الشفقة أيها الناس! فوثب إليّالناس، وأحدقوا بي، وجعلوا يضحكون، فقال صاحبي:
- ما هذا يا صْلَبى، لا تضحك الناس علينا، أعطه الإزار. قلت: وأبقىعرياناً؟ قال: لا، ستأخذ غيره، هذا كساء يفسد إذا مسه الماء، وإن للماءكساء آخر.
ونظرت فإذا عليه هيئة الناصح، وإذا هو يدفع إليّ إزاراً آخر، فاستبدلته بهمكرهاً وتبعت صاحبي إلى مقصورة من هذه المقاصير، فجلسنا علا قدر من هذهالقدور... وأنا أستجير بالله لا أدري ماذا يجري عليّ، فبينما أنا كذلكوإذا برجل عار، كأنه قفص عظام، له لحية كثة، وشكل مخيف وقد تأبط ليفاًغليظاً يا شرّ ما تأبط، وحمل ماعوناً كبيراً، يفور فوراناً، فاسترجعتوعلمت أنه السمّ وأنه سيتناثر منه لحمي، فقصد إليّ، فجعلت أفرّ منه وأتوثبمن جانب إلى جانب وهو يلحقني ويعجب من فعلي، ويظن أني أداعبه، وصاحبي يضحكويقسم لي أنه الصابون، وأنه لا ينظف شيء مثله.
قلت: ألا شيء من سدر! ألا قليل من أشنان؟
قال: والله ما أغشك، فجرب هذا إنه خير منه.
فاستجبت واستكنت، وأقبل الرجل يدلكني دلكاً شديداً وأنا أنظر هل تساقطلحمي، هل تناثر جلدي، فلا أجد إلا خيراً فأزمعت شكره لولا أني وجدتهيتغفلني فيمد يده تحت الإزار إلى فخذي، فيدلكه ويقرصه، فقلت هذا ماجنخبيث، ولو ترك من شره أحد لتركني، ولصرفته عني شيبتي، وهممت بهشم أنفهوهتم أسنانه، ولحظ ذلك صاحبي فهمس في أذني أنه ينظفك وكذلك يصنع مع الناسكلهم، فلما انتهى وصب عليّ الماء، شعرت والله كأنما نشطت من عقال، وأحسستالزهو والخفة، فصحت فأنكرت صوتي فقلت: ما هذا، أينطق لساني مغنٍ من الجن؟وأعدت الصيحة فازددت لصوتي إنكاراً. واستخفني الطرب، فجعلت أغني وأحدو،فقال صاحبي: لعلك استطبت صوتك؟
قلت: أي والله. قال: أفأدلك على باب القاضي؟
قلت: وما أصنع في باب القاضي؟ قال: ألا تعرف قصة جحا؟
قلت: لا والله، ما أعرف جحا ولا قصته.
قال: كان جحا عالماً نحريراً، وأستاذاً كبيراً، لكن كان فيه فضائل نادرة،وكان خفيف الروح، فدخل الحمام مرة فغنى فأعجبه صوته -وكان أقبح رجل صوتاً-وراقه حسنه، فخرج من فوره إلى القاضي، فسأله أن ينصبه مؤذناً وزعم أن لهصوتاً لا يدخل أذناً إلاّ حمل صاحبها حملاً فوضعه في المسجد... فقالالقاضي: اصعد المنارة فأذن نسمع.
فلما صعد فأذّن، لم يبق في المسجد رجل إلا فر هارباً. فقال له القاضي: أي صوت هذا، هذا الصوت الذي ذكره ربنا في الكتاب:
قال: أصلح الله القاضي، ما يمنعك أن تبني لي فوق المئذنة حماماً؟!..
* * *
ولمح الأعرابي صديقاً له من أعراب نجد، قد مرّ من أمام القهوة، فقطع عليّ الحديث وخرج مهرولاً يلحق به.
************************************************** | |
|
العراقي عضومتقدم
علم الدولة : رقم العضوية : 9 الجنس : تاريخ التسجيل : 23/11/2008 عدد المساهمات : 5179 نقاط : 8875 الجنسية : عراقية
| موضوع: رد: أعرابي في الحمام! الأحد 31 أكتوبر - 8:56 | |
| موضوع ترفيهي رائع تقبل مروري
| |
|
زكي عضومتقدم
علم الدولة : الجنس : تاريخ التسجيل : 06/07/2010 عدد المساهمات : 5670 نقاط : 9147 الموقع : العراق الجنسية : عراقية
| موضوع: رد: أعرابي في الحمام! الأحد 31 أكتوبر - 12:53 | |
| ************************************************** | |
|
انوار عضومتقدم
علم الدولة : رقم العضوية : 8 الجنس : تاريخ التسجيل : 04/04/2009 عدد المساهمات : 5760 نقاط : 11263 الموقع : ارض الرافدين الجنسية : عراقية
| موضوع: رد: أعرابي في الحمام! السبت 8 نوفمبر - 20:25 | |
| شكرا لك على الموضوع الجميل و المفيد ************************************************** | |
|
رحيق عضومتقدم
رقم العضوية : 21 الجنس : تاريخ التسجيل : 08/08/2010 عدد المساهمات : 4128 نقاط : 6491
| موضوع: رد: أعرابي في الحمام! السبت 27 نوفمبر - 20:16 | |
| ابداع رائع وطرح يستحق المتابعة شكراً لك
************************************************** | |
|